
قصتي مع الدكتوراه وسوق نخاسة الشواهد
رصد اةمغرب / الدكتور فؤاد هراجة
كتب الدكتور سعيد يقطين أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط والمختص في تحليل الخطاب(السرديات والسيميائيات) مقالا في فبراير 2017 لجريدة القدس العربي تحت عنوان “دكتوراه للبيع” انتقد فيه توجه الدولة بخصوص فرض رسوم تسجيل سنوية تقدر ب 10000 درهم على الطلبة الموظفين المقبولين في سلك الدكتوراه، واعتبر حينها يقطين أن هذا المذهب فيه متاجرة رسمية بالشواهد الجامعية من قِبَلِ الدولة في شخص وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.
اليوم ونحن نتابع فضيحة الشواهد الجامعية مقابل المال التي يقف وراءها أستاذ جامعي، تعود بي الذاكرة ثمان سنوات إلى الوراء حين كنا أول فوج في المغرب كله فرضت عليه جامعة محمد الخامس بالرباط رسوم تسجيل سنوية ب10 آلاف درهم طيلة سنوات سلك الدكتوراه. لم نُخْبَرْ لا نحن الطلبة ولا الأساتذة بهذا الإجراء قبل إجراء عملية الانتقاء عبر المقابلة وتقديم مشروع البحث، وتفاجأنا عند إيداع الملف بأن هناك شرط تقديم وصل دفع الرسوم حتى يقبل الملف.
بطبيعة الحال لم نستسغ ساعتها نحن كتلة من الموظفين المقبولين في سلك الدكتوراه هذا الإجراء وأعلنا رفضنا المطلق له ثم دخلنا في خوض أشكال نضالية متصاعدة جاءت على النحو التالي:
– تنظيم وقفات احتجاجية أمام رئاسة الجامعة.
– تنظيم وقفات احتجاجية داخل كلية الآداب بباب رواح.
– تنظيم وقفات احتجاجية أمام مقر وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.
– تنظيم وقفات أمام البرلمان.
كل ذلك من أجل فتح قناة للحوار مع رئاسة الجامعة أو وزارة التعليم العالي لكن دون جدوى، ما دفعنا إلى الاعتصام داخل مقر رئاسة جامعة محمد الخامس وبالضبط أمام مكتب رئيس الجامعة الذي كان وقتها السيد سعيد أمزازي. أمضينا ليلة داخل رئاسة الجامعة وكانت ليلة باردة جدا، حضرت في منتصف الليل الكاتبة العامة للجامعة ومعها الأستاذ الغاشي، حاولوا بكل الطرق إقناعنا بإخلاء مبنى الرئاسة، رفضنا ذلك إلا إذا كان هناك حوار جاد ومسؤول في موضوع الرسوم المفروضة. تابعنا اعتصامنا إلى أن تم إخلاؤنا بالقوة بعد عصر يوم الغد حيث حضرت كل تلاوين السلطة وتم إخراجنا عنوة وتحت التهديد.
وأمام الآذان الصماء استمر نضالنا طيلة الموسم الجامعي، إلى أن دخل الموسم الجامعي الجديد وكانت كلية الآداب بباب الرواح على موعد مع الدرس الافتتاحي بمدرج الشريف الإدريسي، وكان الضيف المحاضر هو مؤرخ المملكة والناطق الرسمي باسم القصر وقتها السيد عبد الحق المريني، قررنا تنظيم وقفة احتجاجية أمام مدخل المدرج ما دفع رئيس الجامعة السيد سعيد أمزازي إلى الحديث معنا بعد سنة من التعنت وأمام عدسات كاميرات الإعلام وعدنا بفتح حوار معنا في اليوم الموالي الساعة الثامنة صباحا بمقر رئاسة الجامعة.
تماما سوف يلتزم رئيس الجامعة بوعده. على ذلك، حضرت أنا وأحد الطلبة الدكاترة ممثليْن عن المحتجين الرافضين لتلك الرسوم.، فوجدنا في انتظارها على مائدة الحوار رئيس الجامعة والكاتبة العامة والمسؤول عن الشؤون القانونية والنزاعات. افتتح رئيس الجامعة الحوار وأبرز كل دوافع وإيجابيات إقدام الجامعة على خطوة فرض الرسوم على الطلبة الدكاترة الموظفين. رافعت بعده موضحا تهافت الجامعة في كل ما أقدمت عليه وبينت بما لا يقبل شك عدم دستورية القرار وتعارضه الكلي مع ديباجة الدستور الذي يضمن المساواة بين المواطنين، كما بينت أن الجهة الوحيدة المخول لها استصدار قرار فرض رسوم على المواطنين هي مؤسسة البرلمان التشريعية، بالتالي نبهت السيد رئيس الجامعة الذي سيصبح بعدها وزيرا للتربية الوطنية والتعليم أن إدارته تستخلص أموالا خارج القانون. لما شعر رئيس الجامعة أنه قد حوصر من الجوانب القانونية والتشريعية وأننا نختلف مع رئاسته ومجلس جامعته حول تأويل مفهوم استقلالية الجامعة، قال لنا ما دمنا مختلفين على على القوانين المنظمة للجامعات فبيننا القضاء الإداري هو الحكم والفيصل.
بالفعل لجأت إلى القضاء الإداري ورفعت دعوى قضائية:
– على رئيس الحكومة السيد عبد الإله بنكيران.
– وعلى وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار السيد محمد حصاد.
– وعلى رئيس جامعة محمد الخامس السيد سعيد أمزازي
– ثم على السيد عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط جمال الدين الهاني.
أنصفني القضاء الإداري وحكم لصالحي بعدم مشروعية وقانونية الرسوم وجاء تعليل الحكم تماما كما وضحته لرئيس الجامعة، على أن تأويل مجلس الجامعة لاستقلالية الجامعة وفق القانون 00.01 كان فيه شطط، وهو مخالف لما ورد في الدستور وأن رئاسة الجامعة ليست جهة مخولة لإصدار قرارات فرض رسوم على المواطنين لأنها ليست جهة تشريعية. امتنعت الكلية عن تنفيذ الحكم القضائي، ما دفعني إلى توثيق عملية الرفض بحضور عون قضائي ورفع دعوى أخرى، حكمت لي المحكمة على إثرها ب 1000 درهم عن كل يوم تأخير عن التسجيل، وكانت الغرامة على عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية السيد جمال الدين الهاني. بالمناسبة أجدد شكري وتقديري لشركة عبد العزيز نويضي للمحاماة، التي أبلى محاموها البلاء الحسن وعلى رأسهم الأستاذ المحامي محمد قطاية جزاه الله خير الجزاء. والله نسأل أن يجدد الرحمات على المحامي والمناضل والإنسان الفاضل عبد العزيز النويصي الذي جالسناه مرات عديدة بمقر شركته للمحاماة وناقشنا معه هذا الملف من كل الجوانب القانونية والتشريعية.
على إثر هذا المستجد سوف تحاول عمادة الكلية الالتفاف على الأحكام القضائية، وستطلب مني في شخص كاتبها العام أن أتقدم إليها بطلب إعفائي من الرسوم نظرا لوضعي المادي وأنها ستستجيب ويتم تسجيلي فور توقيعي على الطلب. لم أكن أبلها ولا ساذجا إلى هذا الحد لأقبل بهذا العرض السخيف والدنيء، فلقنت حينها كاتب عام الكلية درسا في القيم والأخلاق والمبادئ، وحذرته من أن يعيد معي مثل هذه الأساليب المنحطة.
وبعد هذا الرفض لجأت التنسيقية الوطنية للطلبة الدكاترة الموظفين التي كنت وقتئذ منسقها الوطني إلى تنظيم ندوة صحفية بالمقر المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالرباط تحت عنوان “تحقير جامعة محمد الخامس لأحكام القضاء” حضر هذه الندوة النقيب محمد زيان الذي دافع عن حق كل مواطن مغربي في تعليم جامعي مجاني، ودافع عن المساواة بين المواطنين، كما دعا إلى احترام المؤسسات وعلى رأسها أحكام القضاء.
لكن للأسف الشديد استمرت رئاسة الجامعة في تعنتها ومعها عمادة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، رغم كل محاولات المساومة لم أقبل بالتسجيل إلا عبر تطبيق الحكم القضائي وهو ما كانت ترفضه قطعا رئاسة الجامعة لأنها كانت ترى فيه نسفا لمشروع وزارة التعليم العالي باتخاذ جامعة محمد الخامس قاطرة لجر باقي الجامعات للسير على منوالها في فرض الرسوم. دون أن أنسى أن خلال هذه الفترة سيتم تعديل حكومي وسيعين السيد خالد الصمدي في كتابة الدولة لدى وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي المكلف بالتعليم العالي والبحث العلمي في حكومة سعد الدين العثماني ، فاستبشر أعضاء التنسيقية خيرا بقدومه، وعقدنا معه لقاء، شرحنا له ملفنا، وكانت عنده نفس التبريرات للسيد سعيد أمزازي، ولما أخبرته بالحكم القضائي تحمس كثيرا، وقال لي يجب تنفيذ أحكام القضاء، ونادى عن المكلف بالنزاعات القانونية وطلب منه أن يتابع الملف، غير أن كلام السيد كاتب الدولة ذهب أدراج الرياح ولم ينفذ منه شيء، وأصبح مكتبه هو الآخر مغلق في وجهنا وهو الذي كان متحمسا لتنفيذ حكم القضاء، لكن التعليمات الفوقية كانت أقوى وأبلغ من أي حكم قضائي… .
ومع كل ذلك، فإن هذه المعركة النضالية الطويلة والأحكام القضائية و معهما المواكبة الإعلامية الواسعة جعلت باقي المواقع الجامعية تتخلى إلى وقتنا الحالي عن فرض رسوم على الطلبة الدكاترة الموظفين. وهذه النتيجة وحدها تكفي لنعتبر أن المعركة النضالية كانت ناجحة وكانت مبدئية.
في هذا السياق توجهت إلى جامعة ابن طفيل بالقنيطرة وقمت بالتسجيل في سلك الدكتوراه بدون رسوم ولم أدفع ولو سنتيما واحدا. وفي غضون أربع سنوات ناقشت أطروحة الدكتوراه.
لكن في المغرب لا يمكن أن تخرج هكذا دون أدنى انتقام؛ ففي ساعة المناقشة تفاجأت أن قاعة l’anphithéâtre الذي حددتها رئاسة جامعة ابن طفيل للعموم في إعلانها عن مناقشة أطروحتي في الدكتوراه سوف تغلق وتؤجل المناقشة من الساعة الثالثة زوالا حتى الخامسة في انتظار تحديد قاعة المناقشة، ليخبرني أحد الحراس أنهم حددوا المدرج A حيث لا كراسي في منصة المدرج ولا طاولة و كرسي أجلس عليه لتقديم تقرير أطروحتي. تخيلوا أنني بمعية بعض الضيوف قمنا بجلب الكراسي للجنة المناقشة، وطاولة وكرسي وحاولنا جهد الإمكان إضفاء جو قاعة لمناقشة أطروحة دكتوراه. تمت المناقشة بسلام، ولم يقع ما كانوا ينتظرونه، حصلت بعد المناقشة على درجة مشرف جدا مع تنويه اللجنة وتوصية بالطبع، بلا أي سنتيم.
وبالرغم من كل هذه المعاناة، أعتز وأفتخر أنني بقيت على مبدئي ورفضت كل المساومات، كما رفضت ما سماه رئيس جامعة محمد الخامس وقتئذ السيد سعيد أمزازي امتيازا حين قال لنا أثناء الحوار أن الحصول على شهادة الدكتوراه من جامعة اسمها محمد الخامس بالرباط يستحق دفع كل تلك الرسوم. بطبيعة الحال معاناتي لم تتوقف عند هذا الحد مع وزارة التعليم العالي بل استمرت، بحيث لم يتم اختياري ولو مرة واحدة لاجتياز مباراة أستاذ مساعد ضمن الثلاثة المرشحين لكل منصب، مع أنني تقدمت لأزيد من عشرين منصب في مختلف المواقع الجامعية. إنني عندما أسرد هذه المعاناة أستحضر أولئك الذين اشتروا الشواهد بالملايين وتمكنوا بعد صفقتهم المقيتة من اعتلاء المناصب الجامعية بعد قبولهم لإجراء المقابلات وبعد اجتيازهم للمقابلة بنجاح!!!؟؟؟
إجمالا أقول، إنني لا أرى فرقا بين ما تقوم به الدولة في شخص جامعة محمد الخامس من استخلاص رسوم في الإجازة والماستر والدكتوراه، بعد منع الموظفين من متابعة الدراسة في التوقيت العادي ودفعهم للتسجيل في التوقيت الموضب temps aménagé، وما قام به الأستاذ الجامعي الذي يعطي الشواهد مقابل المال، ففي كلتا الحالتين هناك ابتزاز لمواطن ومواطنة وإرغامه على دفع المال مقابل الحصول على شهادة عليا. ولئن كانت زوجة الأستاذ لوحدها على محدودية زبائن زوجها، قد وصل حسابها البكي 8 مليارات سنتيم، فإن صناديق الجامعات التي تفرض رسوما على الموظفين قد بلغت عشرات المليارات. وفي كلتا الحالتين هناك تبضيع للشواهد الجامعية، وهناك بيع وشراء وسوق داخل فضاء علمي يعتبر حَرَماً له قدسيته، لكن سفسطائِيِي هذا العصر أعادوا إقبار سقراط وأفلاطون وأتباعهما الذين كانوا دائما ينافحون على مجانية المعرفة ويعتبرون أخذ المقابل عليها من رذائل الأخلاق التي يجب محاربتها.
وفي الختام، عود على بدء، أقول لأستاذي الفاضل سعيد يقطين، ليست الدكتوراه وحدها التي أصبحت للبيع، بل أيضا شهادة الإجازة وشهادة الماستر، وعليه نتساءل متى سيتم إغلاق سوق نخاسة الشواهد الجامعية؟ والجواب أنني لا أراه قريبا خاصة بعدما صادقت لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب بالأغلبية وبمباركة من وزير العدل وهبي، على تعديل مثير للجدل ضمن مشروع قانون المسطرة الجنائية، يمنع الجمعيات الحقوقية وهيئات المجتمع المدني من تقديم تبليغات أو شكايات تتعلق بقضايا الفساد الإداري والمالي أمام القضاء، وقبله سحب قانون الإثراء غير المشروع. وهو ما يعتبر بمفهوم المخالفة تشريعا للفساد وتكبيلا وفرضا للقيود على محاربي الفساد. هنا أقول لوزير العدل عبد اللطيف وهبي الذي أقسم على تثبيت المادة 3 من مشروع قانون المسطرة الجنائية التي تمنع الجمعيات من التبليغ عن جرائم الفساد، رغم الرفض والانتقادات من داخل المؤسسة التشريعية وخارجها، أليست جمعيات المجتمع المدني هي من فضحت بائع الشواهد الجامعية، والإثراء غير القانوني لزوجته فلماذا كل هذه المبالغة في تحصين الفساد والمفسدين؟ إن المنظومة التشريعية تتحمل المسؤولية بالتعدي في انتشار كل مظاهر الفساد لأنها لا تشرع حقا مساطر لمحاربة ومحاصرته.
هناك تفاصيل آثرت عدم ذكرها حتى لا يتأذى الأشخاص المرتبطين بها نظرا لمواقعهم الحالية، كما أن هناك أخرى قد أفصح عنها في الوقت المناسب تماما كما فعلت مع مناسبة فضيحة بيع الشواهد.
إرسال التعليق