
التحول الاستراتيجي لتنظيم داعش بعد 2017 من نموذج التمكين إلى تكتيكات حرب العصابات
رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح
تلقى تنظيم داعش ضربات ساحقة وفقد “دولته” المزعومة في العراق وسوريا، لكن ما حدث بعد ذلك هو تحوّل تكتيكي وتنظيمي. أبرز ملامح هذا التحول:
اولا التحول من التمكين إلى حرب العصابات:
يمثل التحول من حالة “التمكين” إلى نمط “حرب العصابات” نقطة انعطاف استراتيجية في مسار تنظيم داعش بعد انهيار مشروع “الخلافة المكانية” في العراق وسوريا. ويُقصد بالتمكين، في أدبيات التنظيم، مرحلة السيطرة على الأرض وإقامة حكم فعلي بما يشمل فرض “الشريعة”، إدارة المدن، وتقديم الخدمات، وهو ما بلغ ذروته بين عامي 2014 و2017، حين سيطر التنظيم على مساحات واسعة في العراق وسوريا.
لكن عقب خسارة معاقله الرئيسة مثل الموصل (2017) والرقة (2017)، اضطر داعش إلى مراجعة استراتيجيته. وقد انعكس ذلك في وثائق التنظيم الداخلية وبياناته الإعلامية، حيث بدأ يؤكد على أهمية “الاستنزاف” كمرحلة تسبق التمكين، مما يدل على عودة إلى أسلوب حرب العصابات الذي ورثه من سابقيه.
1. ملامح التحول إلى حرب العصابات
يتجلى هذا التحول في عدة مظاهر ميدانية:
- الكمائن والضربات المباغتة: كثّف التنظيم من عملياته ضد قوات الأمن والميليشيات في مناطق نائية، عبر استخدام العبوات الناسفة، وقنص الدوريات، ونصب الحواجز الوهمية.
- الانتشار في “المناطق الرمادية“: وهي مناطق لا تخضع لسيطرة تامة من الدولة، خصوصًا في محافظات كـ ديالى وصلاح الدين وكركوك في العراق، والبادية السورية.
- تجنّب المواجهات المفتوحة: تخلّى داعش عن احتلال المدن أو الصدام المباشر مع الجيوش، وركّز بدلًا من ذلك على عمليات صغيرة العدد وسريعة الحركة.
- الاعتماد على خلايا نائمة: يستخدم التنظيم شبكات محلية صغيرة تقوم بعمليات محددة دون الحاجة إلى هيكل تنظيمي هرمي كبير.
2. المرتكزات الفكرية لهذا التحول
التحول إلى “الاستنزاف” لم يكن مجرد قرار عملي، بل استند إلى رؤية “مرحلية” موجودة منذ كتابات أبي مصعب الزرقاوي ومن بعده أبي بكر الناجي في كتاب إدارة التوحش. بل إن أدبيات داعش نفسها، لا سيما في نشراته الأسبوعية (مثل صحيفة النبأ)، باتت تُبرز مفهوم “الإنهاك” كسلاح ضد الأنظمة “المرتدة” والقوى الدولية.
3. دوافع التحول
- الخسائر العسكرية الهائلة: بفعل التدخل الدولي والتحالفات المحلية.
- انهيار المركزية التنظيمية: بعد مقتل معظم القادة المؤسسين، وأبرزهم أبو بكر البغدادي (2019).
- الضغوط الاستخباراتية والإلكترونية: ما أدى إلى تقليص فعالية القيادة والسيطرة.
- الحفاظ على البقاء: فحرب العصابات تُعدّ وسيلة للبقاء في بيئة معادية، بانتظار عودة الظروف المواتية للتمكين.
4. نتائج هذا التحول
- التمدد الجغرافي المحدود: رغم تقهقره في المركز، استطاع التنظيم استغلال فراغات السلطة في إفريقيا (مالي، نيجيريا، الكونغو) وآسيا (أفغانستان عبر ولاية خراسان).
- استمرار الخطر الأمني: إذ لا تزال هجمات التنظيم توقع قتلى بين المدنيين والعسكريين، ما يعقّد جهود الاستقرار.
- حالة “اللاهزيمة” النفسية: من خلال الحفاظ على وتيرة معينة من العمليات، يسعى التنظيم إلى تصدير صورة مفادها أن “داعش لم يُهزم”.
- اللامركزية: التنظيم لم يعد مركزياً، بل صار أقرب إلى شبكة لامركزية تنتشر عبر “الولايات” في إفريقيا وآسيا، مما يصعّب القضاء عليه بشكل شامل
تُشير اللامركزية في السياق الجهادي إلى نمط من التنظيم يعتمد على تفويض الصلاحيات وتوزيع الأدوار على كيانات محلية مستقلة نسبيًا، تتشارك الولاء الفكري وتتناغم في الأهداف العامة دون أن ترتبط بالضرورة بقيادة مركزية قوية أو هرم تنظيمي صارم. وقد ظهر هذا النموذج بوضوح مع تنظيم القاعدة بعد ضربات ما بعد 2001، ليُعاد إنتاجه بطريقة أكثر كثافة مع تنظيم داعش ما بعد 2019.
. التحول البنيوي نحو اللامركزية بعد 2017
بُعيد تفكيك آخر معاقل “الخلافة” في الرقة والموصل، واجه التنظيم تحديًا وجوديًا. ولتجاوز الانهيار، أعاد صياغة نفسه كشبكة من “الولايات” المنتشرة في مناطق النزاع والفوضى، لا سيما في إفريقيا جنوب الصحراء، ووسط آسيا، وشرق آسيا، من خلال:
- توسيع مفهوم “البيعة“: حيث قبل التنظيم بيعات كيانات محلية دون اشتراط اندماجها التنظيمي الكامل، مما أعطاه حضوراً عالمياً شكلياً، وقاعدة عمليات واسعة غير قابلة للحصر.
- تفويض القرار الميداني: أصبحت الولايات تتصرف بشكل مستقل في كثير من الحالات، من حيث التخطيط، التنفيذ، والدعاية، دون الرجوع إلى “المركز”.
- مرونة التنقل والتخفي: من خلال تفكيك البنية الصلبة، صعُب على التحالفات الدولية تتبع هيكل التنظيم أو توجيه ضربة قاضية له.
3. أبرز “ولايات” التنظيم خارج المركز
- ولاية خراسان (أفغانستان/باكستان): باتت من أكثر الفروع نشاطًا، وبرزت إعلاميًا وعسكريًا خاصة بعد عودة طالبان.
- ولاية غرب إفريقيا (ISWAP): انفصلت عن بوكو حرام وأثبتت قدرة على التنظيم والسيطرة في نيجيريا والنيجر.
- ولاية الصومال ووسط إفريقيا: تنفذ عمليات منتظمة وتستغل ضعف الدولة المركزية.
- فروع جنوب شرق آسيا (الفلبين وإندونيسيا): تعمل عبر خلايا سرية وتنفذ عمليات انتحارية وتجنيدية.
4. اللامركزية والدعاية الجهادية
رغم تفكك المركز، يحتفظ داعش بنواة إعلامية مركزية تُدير إصدار مجلة “النبأ” وبيانات “الولايات”، لكن يُلاحظ أن الولايات أصبحت تنتج محتواها الدعائي المحلي بشكل مستقل، أحيانًا بلغات محلية، ما يدل على تعدد المراكز الاتصالية داخل الشبكة.
5. التحديات التي تطرحها اللامركزية
- صعوبة القضاء الشامل: إذ إن استهداف فرع لا يؤثر بالضرورة على بقية الفروع.
- مرونة التمدد الجغرافي: يمكن نقل النشاط من مكان إلى آخر بسرعة أكبر.
- احتمال الانحراف الأيديولوجي: بعض الولايات قد تنحرف عن خط التنظيم، ما يطرح معضلة في ضبط الولاءات.
- ضعف السيطرة المركزية: ما قد يؤدي إلى اختلاف في أولويات العمل بين الولايات والمركز (إن وجد).
6. الإطار النظري لهذا التحول
يمكن فهم هذا التحول في ضوء نظرية “التنظيم الشبكي“ في الدراسات الأمنية، التي تشير إلى أن التنظيمات المرنة، اللامركزية، ذات النوى الصغيرة المتكررة، هي الأكثر قدرة على البقاء في ظل الضغوط الكبيرة. كما تُسهم نظرية التكيف التنظيمي في تفسير كيف يحافظ الكيان الجهادي على وجوده من خلال إعادة هيكلة نفسه بما يتناسب مع التحديات الميدانية.
ثانيا الحضور الإعلامي والفكري مستمر:
رغم الانحسار الميداني والضغوط الأمنية والعسكرية المكثفة التي طالت تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) منذ سقوط خلافته المكانية في العراق وسوريا، إلا أن الحضور الإعلامي والفكري للتنظيم لم يتراجع بالقدر نفسه. فلا يزال التنظيم يحتفظ بقدرة لافتة على إنتاج وتوزيع المواد الدعائية عبر منصاته الإعلامية المختلفة، وفي مقدمتها صحيفة “النبأ” الأسبوعية، التي تواصل صدورها بشكل منتظم تقريبًا، ما يؤكد استمرار عمل الهيكل الإعلامي المركزي أو على الأقل بقاء نواته الفاعلة. وتأتي هذه الاستمرارية رغم التحديات التكنولوجية والمراقبة الأمنية، مما يدل على مرونة تنظيمية وخبرة تراكمية في توظيف الوسائط الرقمية والوسائل البديلة لنشر رسائله.
إن الدعاية الداعشية لم تقتصر على الترويج للعمليات العسكرية أو بث مشاهد العنف، بل تجاوزت ذلك إلى إنتاج خطاب أيديولوجي مركب، يسعى إلى إعادة صياغة المفاهيم الدينية والتاريخية بما يخدم مشروع التنظيم، ويروج لفكرة “الاستمرارية والبقاء” باعتبارها جوهر الاستراتيجية الإعلامية لما بعد انهيار الدولة المكانية. هذا الخطاب يستهدف جمهورًا متعدد الطبقات، يشمل عناصر قديمة ترغب في تجديد البيعة، وجمهورًا متعاطفًا قد يجد في سرديات المظلومية والتمكين محفزًا للالتحاق، فضلًا عن فئة من المتطرفين المحتملين الباحثين عن هوية جهادية في ظل عالم مضطرب.
ولعل اللافت أن هذا الحضور الإعلامي يوازيه ما يمكن تسميته بـ”الاستمرار الفكري” للتنظيم، إذ لا تزال أدبياته ومقولاته المرجعية تُقرأ وتُتناول في بعض المنصات الجهادية، وتُستخدم كمصادر للشرعنة والتأطير العقائدي حتى لدى مجموعات أخرى لا ترتبط تنظيميًا بداعش. وهذا ما يعكس نجاح التنظيم، جزئيًا، في تأسيس “بنية معرفية جهادية” متداولة تتجاوز الأطر التنظيمية الصرفة، ما يفرض تحديات أمنية وفكرية مضاعفة على المدى البعيد.
من هنا، فإن التحليل الأكاديمي لحضور داعش الإعلامي لا يمكن أن يُختزل في بعده الدعائي التقني فقط، بل ينبغي أن يُفهم ضمن منظومة متكاملة تشمل الاستراتيجيات النفسية والتعبوية، والتأصيلات الفكرية التي تعزز من قدرة التنظيم على إعادة التكيف والتموضع في فضاء ما بعد الدولة. وهو ما يدعو إلى تبني مقاربات متعددة التخصصات لفهم خطاب التنظيم وآليات تأثيره المتجددة، لا سيما في بيئات الهشاشة السياسية والاجتماعية.
ثالثا البيئة الحاضنة لم تُعالج جذرياً: سواء في مخيم الهول، أو في السجون، أو في بعض المناطق المهمّشة في العراق وسوريا، لا تزال توجد بيئات قابلة لإعادة إنتاج التطرف
رغم انهيار تنظيم “داعش” جغرافيًا وخسارته معاقله في العراق وسوريا، إلا أن التنظيم لم يُهزم أيديولوجيًا أو بنيويًا بشكل كامل. ويفسر هذا الاستمرار النسبي بوجود بيئات حاضنة تُسهّل عملية إعادة إنتاج التطرف، سواء في مخيمات اللجوء، أو داخل السجون، أو في مناطق التهميش البنيوي. تهدف هذه الورقة إلى تحليل هذه البيئات من منظور أمني واجتماعي، وبيان دورها في تجديد الظاهرة الجهادية المعاصرة.
أولًا: مخيم الهول كنموذج لإعادة إنتاج الجيل الجهادي
يُعدّ مخيم الهول شمال شرق سوريا من أبرز بؤر التطرّف الراهنة، حيث يُقيم فيه أكثر من 50 ألف شخص، معظمهم من عائلات مقاتلي “داعش”. وتشير تقارير أممية وميدانية إلى أن المخيم تحوّل إلى “خلافة مصغّرة” تديرها نساء متشددات، يفرضن نمط الحياة “الداعشي” من خلال العنف الرمزي والمادي، كالتهديد والقتل والتكفير داخل المخيم. وقد ظهرت في المخيم مدارس دينية سرية وأعمال تأديبية باسم “الحسبة”، وهو ما يُدلل على استمرار التعبئة العقائدية، خصوصًا في صفوف الأطفال، الذين يُطلق عليهم إعلام التنظيم لقب “أشبال الخلافة”.
تُشير هذه الحالة إلى أن البيئة المغلقة، مع غياب تدخل تربوي وأمني فعّال، تُشكّل أرضًا خصبة لإنتاج جيل جديد من المتطرفين، في ظل غياب أي برامج جدية لإعادة التأهيل الفكري أو الإدماج المجتمعي.
ثانيًا: السجون كحاضنة للتجنيد والتنسيق
تُعدّ السجون واحدة من أهم نقاط التحول في التاريخ البنيوي للجماعات الجهادية. فتجربة سجن “بوكا” في العراق (2003-2011) مثال واضح على ذلك، حيث التقى فيه قادة “القاعدة في العراق” أمثال أبو بكر البغدادي، وشكّلوا النواة الصلبة لما صار لاحقًا “داعش”.
اليوم، تتكرر الظاهرة ذاتها في سجون الحسكة وسجون العراق، حيث يتم احتجاز الآلاف من عناصر التنظيم دون برامج تأهيل حقيقية. وتؤكد التقارير الأمنية أن بعض هذه السجون شهدت محاولات تمرّد وهروب، أبرزها هجوم “داعش” على سجن الصناعة بالحسكة (2022)، والذي مثّل اختبارًا حقيقيًا لقدرة التنظيم على استعادة مبادراته العملياتية.
السجون، في غياب إدارة منهجية قائمة على التفكيك العقائدي وإعادة الدمج، تتحول إلى مدارس مغلقة لإعادة إنتاج التطرف، بل أحيانًا إلى منصات تنسيق تنظيمي عابر للحدود.
ثالثًا: المناطق المهمّشة والتجنيد الطوعي
تلعب العوامل الاقتصادية والاجتماعية دورًا مركزيًا في تشكيل البيئة الحاضنة. ففي العديد من المناطق الريفية أو النائية في العراق وسوريا، تعاني المجتمعات المحلية من الفقر، وانعدام البنى التحتية، وتراجع الثقة في الدولة، الأمر الذي يجعلها بيئة خصبة لتسلل الخطاب الجهادي الذي يُقدّم نفسه كبديل للعدالة والكرامة المفقودة.
يُشير تقرير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية (2022) إلى أن “داعش” يُعيد تجنيد عناصره عبر إغراءات مالية وخطاب تعبوي يستغل المظلومية السنية أو العشائرية، مؤكدًا أن هذه العوامل تسبق حتى البعد العقائدي في بعض الحالات.
خاتمة: نحو معالجة شاملة لاجتثاث البيئة الحاضنة
إن القضاء العسكري على التنظيمات الجهادية، وإن كان ضروريًا، لا يُحقق استقرارًا طويل المدى ما لم يُصاحبه تفكيك للبنية التحتية الاجتماعية والفكرية التي تُنتج التطرف. ويتطلب ذلك:
- بناء برامج حقيقية لإعادة التأهيل داخل السجون.
- تقديم بدائل تنموية واقتصادية في مناطق التهميش.
- إدارة المخيمات وفق مقاربات إنسانية وأمنية متوازنة.
- محاربة الخطاب المتطرف عبر التعليم والإعلام والمجتمع المدني.
هكذا فقط يمكن تجفيف منابع العنف، ومنع تجدد “داعش” في أي شكل آخر.
إرسال التعليق