قبل أن تضيء شموع أكسفورد.. كانت مصابيح القرويين تنير العالم

آخر الأخبار

قبل أن تضيء شموع أكسفورد.. كانت مصابيح القرويين تنير العالم

رصد المغرب/سهيل شهبار 

في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تتخبط في عصر الظلمات،والكنائسُ تجرم التفكير وتكمم أفواه العلماء،كانت مدينة فاس تدون أول فصول النهضة، وتخط بحروف ذهبية مستقبل البشرية،هناك في قلب فاس بزغت شمس جامع القرويين لتنير أركان المعمورة.

النشأة والتأسيس.. مبادرة امرأة خلدها التاريخ

في عام 245ه/859م،بفاس رفعت مئذنة ليست ككل المآذن،مئذنة لا تنادي للصلاة فحسب؛ بل تبعث برسالة خالدة مفادها أن العلم صدقة جارية لاتنقطع.هناك،سطرت فاطمة الفهرية،ابنة القيروان،فصلا فريدا من فصول التاريخ،حيث بذلت مالها كله لبناء مسجد يكون وقفا في سبيل الله..لم تشيد المرأة التونسية جدرانا فحسب،بل كانت تغرس فكرة راسخة ستنمو مع الأيام لتتحول من مسجد إلى مدرسة،ثم إلى جامعة،ومن ثم إلى علم لايفنى. ربما لم تكن السيدة فاطمة تعلم حينها أن خطوتها هذه ستضع مدينة فاس المغربية على خارطة الحضارة، وتضفي على أركانها لقب“المدينة العلمية”..فَبِنِيَّتِها الخالصة لوجه الله تعالى زرعت جامعا وحصدت جامعة، مُشيدةً بذلك قصة أول جامعة بالعالم“جامع القرويين”،والتي نسجت سنين من المجد والازدهار،وحاكت قرونا من العلم والثقافة..هناك،حيث امتزج صوت الأذان بصرير الأقلام، بدأت الشعلة التي أنارت دروب آلاف الطلاب، وذلك قبل أن تتنفس أكسفورد،أو تولد السوربون.

 

القرويين..الجامعة الجامعة

لقد تحولت القرويين إلى منارة تعليمية بحق،حيث تدرس علوم الحديث النبوي،والتفسير،والفقه المالكي،والقراءات السبع،واللغة العربية بأفصح معانيها، والرياضيات والطب والفلك..كانت القرويين بحق“جامعة جامعة”؛فهي لم تقتصر على العلوم الدينية فقط،بل شملت الطبوالفلك والهندسة والرياضيات، إضافة إلى المنطق والفلسفة. ولم تفرق بين الشرعي والعقلي، ولا بين المقدس والتجريبي،بل جمعت بين كل العلوم على طاولة واحدة، وتحت سقف واحدبروح واحدة؛ مما جعلها قبلة للعلماء وطلبة العلم من المغرب والأندلس، ومن الشام ومصر،ومن السودان غربا إلى الحجاز شرقا، في وقت كانت فيه الجامعات الكبرى في أوروبا مجرد حلم صعب المنال.

ولم تقتصر القرويين على كونها جامعة في التخصصات فقط،بل سعت لتكون جامعة في العدل العلمي والتكافؤ، حيث كانت سباقة لتحقيق مبدأ المساواة في التعليم،وذلك بفتح أبوابها للنساء كما الرجال، وكيف لا تفعل ذلك ومن أسسها إمرأة،ونهل من علمها نساءٌ تركن بصماتٍ محفورة في حلقات العلم والفتوى والتعليم..لم تكن الجامعة حكراعلى جنس،ولا على علم،ولاعلى مذهب أو شعب،بل كانت صرحا مفتوحا لكل طالب علم بحق.. وبذلك تظل القرويين “جامعة جامعة”.. فهي جامعة في الزمان؛ لأنها الأقدم، وهي جامعة في المكان؛ لأنها جمعت الشرق والغرب في ربوعها، وهي جامعة في العلوم؛ لأنها وحدت الشرعي والعقلي، وهي جامعة في الغاية؛ إذ لم يكن مرتادوها يطلبون شهادة فقط؛ بل نورًا وهداية.

القرويين..رمز وهوية

كانت القرويين ولا تزال رمزا للهوية الإسلامية المغربية،تحفظ المذهبالمالكي،وتصون السنة النبوية. ولم تعرف فاس مجدها إلا بالقرويين،ولم تذكر القرويين إلا مقرونة بالعلم والعلماء؛ فكما تتجذر النخلة في الأرض، تجذرت القرويين بفاس،فأنبتت أجيالا من العلماء،والفقهاء،والأطباء،والفلاسفة.وتنعكس هويتها المغربية الإسلامية على هندستها المعمارية المميزة،انطلاقا من الزليج المغربي الذي يكسو الأرض والجدران..أما إذا رفعت رأسك نحو السقف فستبهرك الأقواس الخشبية المتشابكة،وفي فناء المسجد يوجد صحن واسع تحيط به الأروقة، وتتوسطه نافورة من رخام،مجسدة تقاليد العمارة الإسلامية التي تجعل الماء مركزا روحيا وعلميا.ولن ننسى تلك الثُّريَّات المعلقة في جنابات المسجد،فهي وثيقة ناطقة مكتنزة للعديد من المعطيات، وشاهدة على فترات من تاريخ فاس والمغرب..

تعتمد جامعة القرويين على الطراز المغربي الأندلسي، الذي يتسم بالبساطة المهيبة،والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة،واستعمال المواد المحلية كالجبس،والخشب،والزليج..خادمة بذلك الغرض العلمي والروحاني في آن واحد.

وتعتبر مكتبة القرويين أقدم مكتبة في العالم، وهي متضمنة لمخطوطات وكنوز علمية، وتستقبل العلماء والباحثين من كل أنحاء الأرض، ولم تكن المكتبة مجرد مؤسسة علمية؛ بل كانت ولاتزال ذاكرة حية للعالم الإسلامي،ومرآة لحضارة جعلت من الكتاب والعلم أساسا للنهضة،ومن فاس منارة للعلم.يقول المستشرق الفرنسي جورج مارسي:“إن فاس،بفضل القرويين،كانت أحد العقول المفكرة في العالم الإسلامي،وكانت من أعظم مراكز الفكر في العصور الوسطى”.

القرويين..تدريس وتهذيب

في القرويين لاقيمة للعلم إن لم يكن مرفوقا بخشية..لم يكن العلم فيها تكديسا للمعلومات فقط،بل تربية للنفس والعقل والقلب، مصداقا لقول الله تعالى في سورة فاطر:(إنما يخشى الله من عباده العلماء).. كان منهجا يسير على منواله العلماء،وشعارا يحفظه الطلبة عن ظهر قلب؛فلا علم بلا خشية،ولامعرفة بلا خضوع لهيبة الخالق.ولم يكن تاريخ القرويين حكرا على المسلمين،بل كان فضاء للتسامح الدينيوالحوار البناء..تعايش في محيطها المسلمون واليهود والمسيحيون،يجمعهم احترام العلم،وتقديس الحكمة.

لم تكن القرويين مجرد حدث عابر في كتب التاريخ،إنما كانت ولا تزال ورشة مفتوحة للفكر والتجديد..تعيش الحاضر،وتراكم الماضي،وتخطط للمستقبل.وقد تخَرَّج من رحمها أعلام كبار أثَّرُوا في تاريخ الفكر الإسلامي،من أبرزهم:

  • ابن خلدون:مؤسس علم الإجتماع ومبتكر فلسفة التاريخ.
  • لسان الدين بن الخطيب:الوزير الأندلسي والشاعر المؤرخ.
  • ابن رشد:قاض وعالمُ فقهٍ وحديث،ومن الأوائل الذين تتلمذوا بالجامعة.
  • ابن بطوطة:أعظم رحالة مسلم، والسفير غير الرسمي لجامعة القرويين.

ولاتزال القائمة مكتظة بأسماءعدة.. علماء نهلوا من ينابيع هذه الجامعة، وتلقو العلم حق تلقٍ.يقول عبد الله كنون: “جامعة القرويين ليست بناءً من حجر،بل صرحا من نور،لا يطفأ وهجه”.

واليوم، قد تتصدر أكسفورد التصنيفات،وقد تحلق السوربون في قوائم النخبة،لكن التاريخ لا يقاس بعدد النجوم في السماء،بل بمن أشعل أول شمعة في الظلام؛ فالقرويين هي الشعلة الأولى،والنور الذي أضاء دروب العالم.فإلى متى ستبقى مياه العلم ببلاد المسلمين راكدة؟ ومتى سيعود ذاك المجد الغابر، وتنهض أمتنا من ركام الغفلة، وتستفيق عقولنا من سباتها؟

إرسال التعليق