
مسارات التغيير في الفكر الجهادي المغربي ما بعد 2001.
رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل التغيرات الجوهرية التي طرأت على التيار الجهادي المغربي بعد عام 2001، مع التركيز بشكل خاص على تداعيات حرب العراق عام 2003.وظهور تنظيمات جديدة مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). تتناول الدراسة الأبعاد الأيديولوجية، التنظيمية، والجيوسياسية لهذه التغيرات، مع تسليط الضوء على العوامل الداخلية والخارجية التي ساهمت في تشكيل المشهد الجهادي المغربي المعاصر. كما تبحث الدراسة في العلاقة المعقدة بين الفصائل الجهادية المختلفة، وتأثير بعض المرجعيات الفكرية، ودور أجهزة المخابرات في هذا السياق. تخلص الدراسة إلى أن المشهد الجهادي شهد تحولات عميقة أدت إلى تشظي التيار وظهور أشكال جديدة من التطرف، مما يتطلب فهماً معمقاً لهذه الديناميكيات لمواجهة التحديات الأمنية المعاصرة.
المقدمة
شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 نقطة تحول مفصلية في تاريخ الإرهاب العالمي، حيث دفعت بالتيار الجهادي إلى واجهة الاهتمام الدولي. لم تكن هذه الأحداث مجرد عمليات إرهابية عابرة، بل كانت إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من الصراع، تميزت بتغيرات عميقة في بنية الفكر الجهادي، استراتيجياته، وتكتيكاته. فبعد عقدين من الزمن، لا يزال هذا التيار يشكل تهديداً أمنياً عالمياً، لكنه تطور وتكيف مع الظروف الجيوسياسية المتغيرة، مما يستدعي تحليلاً معمقاً لفهم مساراته وتحولاته.
تتناول هذه الدراسة التغيرات التي طرأت على التيار الجهادي بعد عام 2001، مع التركيز على الفترة التي تلت حرب العراق عام 2003، والتي يُنظر إليها على أنها عامل محفز رئيسي لهذه التحولات. تستند الدراسة إلى تحليل نقدي لدراسة أولية قدمها المستخدم، والتي تقدم رؤى قيمة من منظور داخلي، خاصة فيما يتعلق بالديناميكيات داخل السجون وتفاعل الفصائل الجهادية. ومع ذلك، تفتقر الدراسة الأولية إلى الهيكل الأكاديمي والمنهجية البحثية الصارمة، مما يستدعي إعادة صياغتها وتوسيعها لتلبية المعايير الأكاديمية.
تهدف هذه الدراسة إلى الإجابة على الأسئلة البحثية التالية:
1.ما هي أبرز التغيرات الأيديولوجية والتنظيمية التي شهدها التيار الجهادي بعد عام 2001؟
2.كيف أثرت حرب العراق عام 2003 في تطور التيار الجهادي وظهور تنظيمات جديدة مثل داعش؟
3.ما هو الدور الذي لعبته المرجعيات الفكرية والشخصيات المؤثرة في تشكيل هذه التحولات؟
4.ما هي العلاقة بين الفصائل الجهادية المختلفة، وكيف تطورت هذه العلاقة بعد عام 2001؟
5.ما مدى صحة فرضية دور أجهزة المخابرات في دعم أو توجيه بعض تيارات الغلو داخل الحركة الجهادية؟
تعتمد الدراسة على منهج تحليلي وصفي، يستند إلى مراجعة شاملة للأدبيات الأكاديمية، التقارير البحثية، والمصادر المفتوحة ذات الصلة. سيتم تحليل الدراسة الأولية المقدمة من المستخدم كدراسة حالة، مع دمج رؤاها في الإطار الأكاديمي الأوسع. تهدف الدراسة إلى تقديم فهم شامل ومعمق للتغيرات التي طرأت على التيار الجهادي، مما يسهم في الجهود المبذولة لمكافحة الإرهاب والتطرف.
الخلفية التاريخية: نشأة وتطور الفكر الجهادي
يعود الفكر الجهادي المعاصر بجذوره إلى منتصف القرن العشرين، متأثراً بعدة عوامل سياسية واجتماعية وفكرية. يمكن تتبع بداياته غير الرسمية في مصر، حيث تأثرت شخصيات مثل نبيل البرعي بكتابات ابن تيمية، خاصة تلك المتعلقة بالجهاد، مما شكل نواة لتيار السلفية الجهادية. وقد شهدت السجون المصرية في الستينات من القرن الماضي نشأة وتطوراً ملحوظاً لهذا الفكر، حيث كانت بيئة خصبة لتبلور الأفكار وتكوين الجماعات.
تاريخياً، مرت الحركة الجهادية بعدة مراحل وتطورات، كان أبرزها ظهور تنظيم القاعدة في أواخر الثمانينات على يد أسامة بن لادن وعبد الله عزام. ركز هذا التنظيم في بداياته على قتال “العدو البعيد”، متمثلاً في الولايات المتحدة وحلفائها، معتبراً أن هذا هو السبيل لتحرير الأراضي الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية. وقد تجلى هذا التوجه في هجمات 11 سبتمبر 2001، التي كانت بمثابة ذروة لهذا التوجه.
قبل عام 2001، كانت هناك اختلافات منهجية وفكرية داخل التيار الجهادي المغربي، لكنها لم تصل إلى حد الانقسام الحاد الذي شهده التيار لاحقاً. كانت المرجعيات الفكرية مثل أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني تلعب دوراً مهماً في تشكيل الوعي الجهادي، لكن تأثيرها كان يتفاوت بين الفصائل المختلفة. كانت هذه الفترة تتميز بنوع من التماسك النسبي داخل التيار، مع وجود قيادة مركزية ممثلة في تنظيم القاعدة. ومع ذلك، كانت هناك بذور خلافات كامنة، خاصة فيما يتعلق بمسائل التكفير والتعامل مع المجتمعات المسلمة، والتي ستتفاقم لاحقاً لتؤدي إلى انقسامات عميقة.
تعتبر حرب العراق عام 2003 نقطة تحول حاسمة في مسار التيار الجهادي. فبعد الغزو الأمريكي للعراق، تحولت الساحة العراقية إلى بؤرة جذب للمقاتلين الجهاديين من مختلف أنحاء العالم. أدى هذا إلى ظهور تنظيمات جديدة، أبرزها جماعة التوحيد والجهاد بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، والتي ستتحول لاحقاً إلى تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، ثم إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). لقد أثرت هذه الحرب بشكل كبير على استراتيجيات وتكتيكات التيار الجهادي، حيث تحول التركيز من “العدو البعيد” إلى “العدو القريب”، مع تصاعد حدة العنف والتركيز على الصراعات الطائفية.
لقد مهدت هذه الخلفية التاريخية الطريق لفهم التغيرات المعقدة التي شهدها التيار الجهادي بعد عام 2001، والتي ستتناولها الدراسة بالتفصيل في الأقسام اللاحقة.
.
التغيرات الأيديولوجية والتنظيمية في التيار الجهادي المغربي بعد 2001
شهد التيار الجهادي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وتحديداً بعد غزو العراق عام 2003، تحولات أيديولوجية وتنظيمية عميقة، أدت إلى تشظيه وظهور فصائل جديدة ذات توجهات أكثر تطرفاً. كانت هذه التغيرات مدفوعة بعوامل داخلية وخارجية، ساهمت في إعادة تشكيل المشهد الجهادي العالمي.
تصاعد الغلو والتكفير
من أبرز التغيرات الأيديولوجية التي طرأت على التيار الجهادي هو تصاعد حدة الغلو والتكفير، خاصة بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). فبينما كانت تنظيمات مثل القاعدة تركز على قتال “العدو البعيد” (الولايات المتحدة وحلفائها)، مع تجنب تكفير عموم المسلمين، اتجهت الفصائل الجديدة، المتأثرة بشكل كبير بأدبيات “الدعوة النجدية”، إلى تكفير قطاعات واسعة من المجتمعات المسلمة، بما في ذلك الحكام، الجيوش، وحتى عامة الناس الذين لا يتبنون أفكارهم المتطرفة.
توضح الدراسة الأولية كيف أن هذه الأفكار بدأت تتسرب إلى داخل السجون، حيث كان هناك صنف من الجهاديين الجدد يتبنى أفكاراً متطرفة حول “العذر بالجهل” و”تكفير الحكام والشعوب”. هذا التوجه، الذي كان يخفيه “المسلمون الجدد” (التكفيريون) في السابق، أصبح يُعلن بجرأة من قبل الجهاديين الجدد، مما أدى إلى كسر “الجدار الفاصل” بين التيار الجهادي التقليدي والتيار التكفيري. لقد أدت هذه الأيديولوجية المتشددة إلى صراعات داخلية عنيفة بين الفصائل الجهادية نفسها، حيث اعتبرت الفصائل الغالية أن الجهاديين “المعتدلين” منحرفون أو حتى كفار، مما مهد الطريق لظهور تنظيمات مثل داعش التي لم تتردد في قتال الفصائل الجهادية الأخرى.
التحول من المركزية إلى اللامركزية
على الصعيد التنظيمي، شهد التيار الجهادي تحولاً من الهيكل المركزي الذي كانت تمثله القاعدة في بداياتها، إلى نموذج أكثر لامركزية. فبعد الضربات التي تلقتها القاعدة في أفغانستان، وتشتت قياداتها، بدأت تظهر فروع إقليمية مستقلة نسبياً، بالإضافة إلى خلايا صغيرة تعمل بشكل ذاتي. وقد تعزز هذا التوجه بشكل كبير مع ظهور داعش، الذي اعتمد على نموذج “الولايات” المنتشرة جغرافياً، والتي تتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلالية في العمليات والتجنيد.
تصف الدراسة الأولية كيف أن الجهاديين الجدد في السجن كانوا يعملون على استقطاب الأفراد بعناية فائقة، مستخدمين في ذلك أدبيات ومواد صوتية تدعم منهجهم المتطرف. هذا يشير إلى أن عملية التجنيد لم تعد تعتمد فقط على التوجيهات المركزية، بل أصبحت تعتمد على شبكات صغيرة ومنظمات محلية قادرة على نشر الأيديولوجية واستقطاب الأفراد بشكل فعال.
تأثير حرب العراق على التغيرات
- توفير ملاذ آمن:
أدت الحرب الأمريكية على العراق سنة 2003 إلى انهيار المؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية، وخلق فراغ أمني واسع، خصوصًا في المناطق ذات الغالبية السنية مثل الأنبار والموصل وصلاح الدين. وقد استغلت التنظيمات الجهادية هذا الوضع لتأسيس قواعد لها، حيث شكلت هذه المناطق بيئة حاضنة لانطلاق التمرد المسلح ضد القوات الأمريكية والحكومة العراقية الجديدة.
ظهر في هذا السياق تنظيم “التوحيد والجهاد“ بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، الذي تحول لاحقًا إلى تنظيم “القاعدة في بلاد الرافدين“، ثم لاحقًا إلى “دولة العراق الإسلامية” في 2006. شكلت هذه التنظيمات نواة ما سيصبح لاحقًا تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).
- تأجيج الصراع الطائفي:
كان من أبرز نتائج الغزو الأمريكي للعراق إضعاف النسيج الاجتماعي العراقي، حيث تصاعدت التوترات الطائفية بين السنة والشيعة، خصوصًا بعد سيطرة قوى شيعية مدعومة من إيران على مفاصل الدولة. مارست الميليشيات الشيعية أعمال قتل وخطف وتهجير بحق سكان المناطق السنية، ما غذّى مشاعر المظلومية والانتقام.
استغل الجهاديون هذا الوضع، وقدموا أنفسهم كمدافعين عن أهل السنة في وجه “الاحتلال الأمريكي والتمدد الشيعي”، مما منحهم شرعية داخل بعض الأوساط السنية. الزرقاوي نفسه، في رسائله إلى قادة القاعدة، ركّز على “الحرب على الرافضة” كوسيلة للتعبئة والتجنيد.
- ظهور جيل جديد من الجهاديين بالمغرب:
الحرب في العراق لم تخلق فقط جبهة ميدانية جديدة، بل أسهمت في تشكيل جيل جديد من الجهاديين يختلف عن جيل القاعدة القديم الذي تشكل في أفغانستان خلال الثمانينيات والتسعينيات. هؤلاء الجدد لم يتشبعوا بنفس الثقافة الجهادية الكلاسيكية التي كانت تتبنى بعض الضوابط الشرعية، بل كانوا أكثر حدة في الغلو، وأكثر ميلاً إلى العنف العشوائي والقتل الطائفي، كما برزت في تكتيكات مثل التفجيرات الانتحارية في الأسواق والمساجد، وذبح الرهائن الإعلامي.
تميز هذا الجيل أيضًا بتأثره العميق بالخطاب التعبوي الحماسي، لا سيما ما بثته المنابر الجهادية الإلكترونية مثل “منتدى التوحيد والجهاد”، و”المنبر الإعلامي الجهادي”، وتسجيلات مثل “ذبح الرهائن” و”عمليات الكرامة ضد الرافضة”، ما شكل تحولاً نوعيًا في الانتقال من خطاب التعبئة إلى خطاب الإبادة.
إن تداعيات حرب العراق لم تقتصر على زعزعة استقرار دولة مركزية في المنطقة، بل أسهمت في إنتاج بيئة فكرية وميدانية خصبة لتطور المشروع الجهادي المعولم، وتحوّل العراق إلى مختبر حقيقي لإعادة تشكيل الخطاب والسلوك الجهادي. وقد أنتج هذا الواقع جيلًا من “المقاتلين الجهاديين الرقميين”، الذين يجمعون بين الخبرة الميدانية والعنف الغريزي والتعبئة الأيديولوجية المتطرفة، وكان لهذا الجيل الدور الأكبر في ولادة تنظيم داعش، وإعادة تصدير الجهاد إلى سوريا وليبيا وأوروبا لاحقًا.
دور المرجعيات الفكرية والشخصيات المؤثرة
لعبت المرجعيات الفكرية والشخصيات المؤثرة دوراً محورياً في تشكيل وتوجيه الفكر الجهادي المغربي، خاصة في مراحل تحوله بعد عام 2001. فبينما كانت هناك شخصيات تقليدية ذات تأثير واسع، ظهرت مرجعيات جديدة ساهمت في تعزيز التوجهات المتطرفة.
أبو محمد المقدسي وأبو مصعب الزرقاوي
تعتبر شخصيتا أبو محمد المقدسي وأبو مصعب الزرقاوي من أبرز المرجعيات التي أثرت في التيار الجهادي المغربي، خاصة في مرحلة ما بعد 2003. فالمقدسي، الذي يوصف بأنه “أهم منظّر جهادي ” ، كان له تأثير كبير في صياغة الأيديولوجية الجهادية، خاصة فيما يتعلق بمسائل التوحيد والحاكمية والتكفير. وقد تأثر به العديد من الجهاديين، بمن فيهم الزرقاوي.
أما أبو مصعب الزرقاوي، فقد كان له دور عملي كبير في العراق، حيث أسس جماعة التوحيد والجهاد التي تحولت لاحقاً إلى تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين. وقد تميز الزرقاوي بتبنيه منهجاً متشدداً في التكفير والعنف، خاصة ضد الشيعة، مما أدى إلى تصاعد حدة الصراع الطائفي في العراق ولا بد من الاشارة الى ان “العمل الحركي للزرقاوي والمنهج الفكري للمقدسي هما اللذان هدما الجدار الفاصل بين التيار الجهادي والتيار التكفيري”. هذا التوصيف يعكس الدور المحوري لهاتين الشخصيتين في دفع التيار الجهادي نحو مزيد من الغلو والتقارب مع الأفكار التكفيرية.
الدعوة النجدية وتأثيرها
تأثير “الدعوة النجدية” على الجهاديين المغاربة الجدد والتكفيريين. تشير الدعوة النجدية إلى المدرسة الفكرية التي أسسها محمد بن عبد الوهاب في نجد بالجزيرة العربية في القرن الثامن عشر. وقد تميزت هذه الدعوة بالتركيز الشديد على التوحيد ونبذ الشرك، وتطبيق صارم للشريعة، وتكفير من يخالفها في بعض المسائل.
لقد استغل الجهاديون الجدد أدبيات الدعوة النجدية لتعزيز أفكارهم ، خاصة فيما يتعلق بتكفير الحكام والشعوب. وقد أدى هذا التوجه إلى شعور بالتقارب المنهجي بين الجهاديين الجدد والتيار التكفيري، مما مهد الطريق لاندماجهم الحركي والتنظيمي لاحقاً، كما حدث تحت راية داعش. هذا التأثير الفكري يوضح كيف أن بعض المرجعيات التاريخية يمكن أن تُستغل لتبرير أيديولوجيات العنف والتطرف في سياقات معاصرة.
أبو مصعب السوري وتحذيراته
على النقيض من ذلك، تشير بعض الدراسات إلى أن أبو مصعب السوري كان قد حذر منذ أواخر التسعينيات من “انهيار الجدار الفاصل بين التيار الجهادي والتيار التكفيري”. أبو مصعب السوري، وهو منظّر جهادي بارز، كان يدعو إلى بناء “جدار فكري تنظيمي يفصل بين المنهج السليم وبين مؤثرات الغلاة”. إلا أن تحذيراته لم تلق آذاناً صاغية من قبل قادة الجهاديين، مما ساهم في انتشار الغلو داخل التيار الجهادي عالمياً.
هذا التباين في المرجعيات الفكرية يوضح الصراع الأيديولوجي داخل التيار الجهادي نفسه. فبينما كانت بعض الشخصيات تدفع نحو مزيد من التشدد والتكفير، كانت هناك أصوات تحذر من مخاطر هذا التوجه وتدعو إلى التماسك المنهجي. إلا أن التوجهات الغالية هي التي سادت في النهاية، مما أدى إلى النتائج التي شهدها العالم من عنف وتطرف.
العلاقة بين الفصائل الجهادية المغربية المختلفة
شهدت العلاقة بين الفصائل الجهادية المختلفة تحولات عميقة بعد عام 2001، خاصة مع ظهور جيل جديد من الجهاديين وتبلور أيديولوجيات أكثر تطرفاً. فبعد فترة من التماسك النسبي، بدأت الانقسامات والصراعات تظهر بوضوح، مما أثر على بنية التيار الجهادي ككل.
الانقسامات داخل السجن
هناك رؤية حول الديناميكيات الداخلية للسجون، والتي كانت بمثابة مختبر مصغر لما حدث على نطاق أوسع في التيار الجهادي. حاولنا تقديمها في دراسة سابقة بينا أن الجهاديين في السجن كانوا ينقسمون إلى ثلاثة أصناف رئيسية: “أفغان العرب والمتأثرين بهم وبالقاعدة”، “الجهاديون المحليون”، و”مجموعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. هذه الأصناف كانت تختلف فيما بينها حول طريقة التغيير وبعض المسائل المنهجية، لكنها كانت متقاربة بشكل عام.
في المقابل، كانت هناك فئة أخرى تُعرف بـ”المسلمين الجدد” أو “التكفيريين”، الذين كانوا يكفرون الجهاديين والشعوب وكل الجماعات الإسلامية. كانت العلاقة بين الجهاديين والتكفيريين في البداية تتسم بالانفصال الواضح، مع وجود “جدار منهجي عملي” يفصل بين الطرفين. ومع ذلك، بدأ هذا الجدار في الانهيار مع دخول “الجهاديين الجدد” إلى السجن عام 2006، والذين كانوا يميلون إلى الغلو والتكفير.
أدت النقاشات التي فتحها الجهاديون الجدد في السجن إلى “التنقيب عن منهج الجهاديين المتواجدين قبلهم”، بهدف الحكم عليهم بـ”التوحيد الخالص أو الكفر الصراح”. وبعد هذا “الفحص الدقيق”، خلصوا إلى أن غالبية السجناء الجهاديين “كفار”، مما أدى إلى اعتمادهم على “التقية والدعوة السرية” في البداية، ثم إلى إعلان أفكارهم بجرأة أكبر. هذا التطور أدى إلى انقسام “الجهاديين المعتدلين” حول الموقف الواجب اتخاذه تجاه الجهاديين الجدد، مما أضعف صفوفهم وجعلهم عرضة لـ”غزو الغلاة”.
التقارب بين الجهاديين الجدد والتكفيريين داخل السجون المغربية
من أبرز التحولات في العلاقة بين الفصائل هو التقارب الذي حدث بين الجهاديين الجدد والتكفيريين. على الرغم من أن التيار التكفيري لم يكن يتبنى حمل السلاح كوسيلة للتغيير، إلا أن الجهاديين الجدد والتكفيريين شعروا بوجود “قواسم مشتركة عديدة بينهما (وهي الدعوة النجدية)”. هذا التقارب أدى إلى كسر الحاجز المنهجي الذي كان يفصل بينهما، بل إن الجهاديين الجدد كانوا “أقرب إلى التيار التكفيري من التيار الجهادي”.
حيث أن هذا التقارب أدى إلى “اندماجهم حركياً في السجن سنة 2007، ثم ظهر الاندماج تنظيمياً مرة ثانية تحت راية داعش الخلافة سنة 2013”. هذا الاندماج كان نتيجة لاقتناع الجهاديين الجدد بأن خلافهم مع التكفيريين “خلاف فرعي بسيط لا يرقى إلى الخلاف في الأصول”. هذا التحالف المرحلي بين التكفيريين والجهاديين الجدد كان يهدف إلى التعاون ضد الجهاديين “المعتدلين”، مما يبرز مدى عمق الانقسامات التي طرأت على التيار الجهادي.
الصراع بين القاعدة وداعش
تعتبر العلاقة بين القاعدة وداعش مثالاً صارخاً على هذه الانقسامات. فبينما كانت القاعدة تمثل النموذج المركزي للجهاد العالمي، ظهرت داعش كقوة جديدة تتحدى هيمنة القاعدة وتتبنى أيديولوجية أكثر تطرفاً. إلى درجة أن “الكثير من فروع القاعدة انقسمت واتبعت داعش”، مما يدل على قدرة داعش على جذب المقاتلين والأتباع من تنظيمات أخرى.
لقد أشار أبو حفص الموريتاني إلى أن “انتماء جماعة الدولة إلى القاعدة هو انتماء أملته ظروف مؤقتة”، وأن “الجماعتان مختلفتان في أمور فكرية كثيرة وأمور سياسية وسلوكية تنظيمية متعددة جداً”. هذا الاختلاف في المنهج والفكر، خاصة فيما يتعلق بمسائل التكفير والتعامل مع الشيعة، أدى في النهاية إلى صراع مفتوح بين التنظيمين. فبينما كانت القاعدة لا تكفر الشيعة بالجملة، كانت جماعة التوحيد والجهاد (سلف داعش) تكفرهم بالجملة وتستهدف المدنيين. هذا الصراع بين “مؤسسي القاعدة وداعش” [31] كان نتيجة حتمية للتغيرات الأيديولوجية والتنظيمية التي شهدها التيار الجهادي بعد عام 2001.
دور أجهزة المخابرات في التيار الجهادي
هناك فرضية مثيرة للجدل حول دور أجهزة المخابرات في دعم أو توجيه بعض تيارات الغلو داخل الحركة الجهادية. فبينما يرى البعض أن هذه الفرضية هي جزء من نظرية المؤامرة، يرى آخرون أن هناك أدلة تشير إلى استغلال بعض الدول لأجهزة المخابرات في التأثير على مسار الحركات المتطرفة.
فرضية دعم الغلو
تشير الفرضية إلى أن “المخابرات الدولية وأساليب صراع الأفكار التي يتقنعا الغرب له الدور الأكبر في صناعة ودعم تيار الغلو”. وتستشهد الدراسة بشواهد من بعض الأسرى في مصر والسعودية والجزائر، تفيد بأن المخابرات كانت “تتعمد زرع الغلو بين الجهاديين لعلمها أنه متى ما فشي الغلو في جماعة ما فقدت المعارضة مباشرة مصداقيتها بين الناس”. هذا التحليل يشير إلى أن الهدف من ذلك هو تشويه صورة هذه الجماعات أمام الرأي العام، وبالتالي ترسيخ شرعية الأنظمة الحاكمة.
وتدعم هذه الفرضية بالإشارة إلى تقرير صادر عن مؤسسة راند عام 2006، والذي جاء فيه أنه “ينبغي دعم الجهاديين الجدد والقضاء على الجهاديين القدامى أو تهميشهم ونزع تأثيرهم”. كما تذكر الدراسة مقتطفات من تقرير “سرقة دفتر خطط القاعدة” (Stealing Al-Qaida’s Playbook) لجاريت م. براكمان وويليام ف. مكانتس، والذي يوصي بـ”ضرورة إظهار الحركة الجهادية في صورة مشوهة ومرعبة، في صورة من يرهب المسلمين ويقتلهم”، مع الاستعانة بـ”الوكلاء والأصدقاء” لتنفيذ هذه الحرب الدعائية.
تحليل نقدي للفرضية
على الرغم من أن هذه الفرضية تثير تساؤلات مهمة حول العلاقة بين الدول وأجهزة المخابرات والحركات المتطرفة، إلا أنها تتطلب تحليلاً نقدياً أعمق. فبينما قد يكون هناك استغلال لبعض الظروف أو الجماعات من قبل أجهزة المخابرات لتحقيق أهداف معينة، فإن القول بأن هذه الأجهزة هي “صانعة” للغلو يتطلب أدلة أكثر قوة وتفصيلاً. فظاهرة الغلو والتطرف لها جذور أيديولوجية واجتماعية وسياسية عميقة، ولا يمكن اختزالها في مجرد مؤامرة خارجية.
ومع ذلك، لا يمكن إغفال الدور الذي قد تلعبه أجهزة المخابرات في:
- التسلل والاختراق: قد تحاول أجهزة المخابرات التسلل إلى الجماعات المتطرفة لجمع المعلومات أو التأثير على قراراتها.
- التلاعب بالصراعات: قد تستغل أجهزة المخابرات الصراعات الداخلية بين الفصائل المتطرفة لتغذيتها وإضعافها.
- الحرب النفسية والدعائية: قد تستخدم أجهزة المخابرات وسائل الإعلام والدعاية لتشويه صورة الجماعات المتطرفة أو تضخيم بعض جوانبها السلبية.
إن العلاقة بين أجهزة المخابرات والحركات المتطرفة هي علاقة معقدة ومتعددة الأوجه، ولا يمكن تبسيطها في تفسير واحد. فبينما قد يكون هناك استغلال متبادل للمصالح في بعض الأحيان، فإن الأسباب الحقيقية لظهور وتطور الغلو والتطرف تكمن في عوامل أعمق تتجاوز مجرد التدخلات الخارجية.
الخلاصة والتوصيات
شهد التيار الجهادي بعد عام 2001 تحولات عميقة وجوهرية، أثرت على بنيته الفكرية والتنظيمية، وغيرت من طبيعة تهديده. لقد كانت أحداث 11 سبتمبر وغزو العراق عام 2003 عوامل محفزة رئيسية لهذه التغيرات، التي أدت إلى تشظي التيار وظهور فصائل جديدة أكثر تطرفاً وعنفاً.
أبرز التغيرات
1.تصاعد الغلو والتكفير: تحول التيار الجهادي من التركيز على “العدو البعيد” إلى تكفير قطاعات واسعة من المجتمعات المسلمة، مما أدى إلى صراعات داخلية عنيفة بين الفصائل. وقد ساهمت مرجعيات فكرية مثل أبو محمد المقدسي وأبو مصعب الزرقاوي في هذا التوجه، بالإضافة إلى استغلال أدبيات الدعوة النجدية لتبرير الغلو.
2.التحول من المركزية إلى اللامركزية: بعد الضربات التي تلقتها القاعدة، ظهر نموذج أكثر لامركزية، حيث أصبحت الفروع الإقليمية والخلايا المستقلة تلعب دوراً أكبر في التجنيد والعمليات. وقد تجلى هذا بوضوح في ظهور داعش ونموذج “الولايات” المنتشرة.
3.تأثير حرب العراق: وفرت الفوضى الأمنية والسياسية في العراق بيئة خصبة لنمو التنظيمات الجهادية، وأدت إلى ظهور جيل جديد من الجهاديين أكثر ميلاً إلى الغلو والتطرف، وتأجيج الصراع الطائفي.
4.تغير العلاقات بين الفصائل: شهدت العلاقة بين الفصائل الجهادية انقسامات عميقة، خاصة داخل السجون، حيث أدت أفكار الجهاديين الجدد إلى تقارب مع التيار التكفيري، واندماج حركي وتنظيمي لاحقاً تحت راية داعش. هذا أدى إلى صراع مفتوح بين القاعدة وداعش، يعكس الاختلافات الجوهرية في المنهج والفكر.
5.دور أجهزة المخابرات: تطرح الدراسة فرضية حول دور أجهزة المخابرات في دعم أو توجيه بعض تيارات الغلو، بهدف تشويه صورة هذه الجماعات وإضعافها. ورغم أن هذه الفرضية تتطلب مزيداً من البحث، إلا أنها تثير تساؤلات حول العلاقة المعقدة بين الدول والحركات المتطرفة.
إرسال التعليق