في ذكرى محاكمة مجموعة ال71 ويستمر نزيف الجراح

آخر الأخبار

في ذكرى محاكمة مجموعة ال71 ويستمر نزيف الجراح

رصد المغرب/الدكتور محمد حقيقي  

نائب رئيس الرابطة العالمية للحقوق والحريات وممثلها بالمغرب 

 

كتبت سابقا حول محاكمة “مجموعة ال71” التي أدينت بأحكام قاسية في 31 يوليوز سنة 1984، وبما أن ذكرى هذه القضية على الأبواب، أعيد نشر ما كتبته في الموضوع، مع تغيير العنوان وتحيين ما يحتاج إلى التحيين وإضافة ما يساهم في تجويد النص.
هناك أحداث عصية على النسيان، لا يمكن تجاهلها بما لها من قدرة على إعادة رسم مسار حياتنا، فمهما حاولنا تجاوزها تظل محفورة في الذاكرة، بل إن بعض اللحظات قد تكشف “من نكون؟”. كما أن الحدث الذي نمر به ويترك فينا نذوبا، يعلمنا دروساً لا تمحى بفعل مرور الزمن..
من ذلك ما حدث يوم 31 يوليوز من سنة 1984، فقد رسم وشما غائرا في ذاكرة الإعتقال السياسي بالمغرب، حيث أصدرت محكمة الإستئناف بالحبوس بمدينة الدار البيضاء أحكامها التي تراوحت ما بين الإعدام وأربع سنوات في حق عناصر ما سمي ب”مجموعة ال71″.
وعندما ألتفت متأملا إلى تلك اللحظة، التي ما تزال تحضرني بكل تفاصيلها وأجوائها، أجد أن 42 سنة، بما تعنيه من توالي الأعوام والشهور والأيام وتعاقب الليل والنهار، قد مرت على الحدث..بالرغم من أننا كنا نشعر بتثاقل الزمن حينما كنا نعيش في أتون الحدث، فإننا في المقابل نشعر الآن أن كل اللحظات التي مرت كانت كحلم عابر..غير أن النذوب التي خلفها على ملامحنا تفضح مكر السنين..كان عمري حين اعتقلت 21 سنة، بينما أبلغ اليوم 63 سنة، مضت خلالها السنون سريعة كالطيف، وكأن الزمن قد انسل في ومضة، أو كأن ثقبا قد ابتلع ال42 سنة وطواها حين غفلة، لنجد أنفسنا قد وهن العظم منا واشتعل الرأس شيبا، ومنا من قضى نحبه، ومنا من ينتظر صامتا مطرقا.
تعود بي الذاكرة إلى ساعة متأخرة من ليلة الثلاثاء آخر يوم من شهر يوليوز سنة 1984، حين أصدرت محكمة الإستئناف بالحبوس المقابلة للمسجد المحمدي بالدار البيضاء أحكامها القاسية في مجموعة ال71.
نعم..استرجع شريط الذكريات حيث وجدت نفسي رفقة إخواني في المجموعة داخل قاعة المحكمة، أمام القاضي السيد الغزواني وممثل النيابة العامة السيد مداح.. نردد هتافات وأناشيد جماعية، ملء حناجرنا، يصل صداها إلى عائلاتنا المرابطة بعيدا أمام بوابة المسجد المحمدي، وهي تردد معنا سمفونية التحدي في جو مفعم بالحماسة والشعور العارم بالنشاط…
تعود بي الذاكرة إلى هذه اللحظة وكأن الحدث حصل بالأمس القريب، بينما مرت عليه 42 سنة منذ اختطافي وإخفائي قسريا في قبو معتقل درب مولاي الشريف السري مع بقية أعضاء مجموعتي.
نعم لقد مرت 42 سنة لا نلوي منها على شيء..منها 11 سنة قضيتها خلف القضبان موزعة على مجموعة من سجون بلادي منها، اغبيلة بالدارالبيضاء، والمركزي بالقنيطرة، والمحلي بآسفي، وبولمهارز بمراكش، ومركب عكاشة بالبيضاء، وسيدي موسى والعادير بالجديدة..كما انصرمت منها 31 سنة منذ الإفراج عني سنة 1994 ، لم يبارحني خلالها الإحساس بأنني ما زلت رهن الإعتقال، مقيد الإرادة، مخنوق النَفس، بلا حول ولا حيلة..بل لا يزال هذا الإحساس يلح علي واشعر إزاءه بالحسرة القاتلة، وهو يعلن أنني انتقلت من سجن انتصرت فيه لكرامتي ومبادئي، كنت فيه على خط النار ضد جلاد واضح مكشوف الملامح، واعتنق قضية تمنحني مبررا للوجود، إلى سجن مترامي الأطراف متعدد الوجوه والأقنعة، سجن فقدت فيه جزءا من هويتي المشروخة، وتهت في شعابه بين طاحونة المعيش اليومي وإكراهاتها المقيتة، وبين البحث عن ما تبقى من ذات هلامية. لأدرك عندئذ أنني فعلا انتقلت إلى سجن مخادع من نوع آخر، تغذي فيه الحرمان من ما هو طبيعي..البحر والجبال والمرأة.. وتتنازل فيه عن كينونتك كإنسان حر كريم..نعم أدركت أنني صرت في هذا السجن الكبير هدفا لسادية جلاد متستر مستتر يجيد فن التقمص، ويتقن لعب الأدوار..
تعود بدايات الحكاية إلى ثمانينيات القرن الماضي حين أدى سوء الظروف الإقتصادية في المغرب إلى تدهور ملحوظ في الوضعية المعيشية للمواطن المغربي البسيط، إذ لم يكن نصيب الفرد في المغرب من الناتج الإجمالي سوى 76 دولارا، بينما كان مثلا في تونس 129 دولارا، وبلغ في ليبيا 846 دولار حينذاك.
أمام هذه الوضعية دعت النقابة العمالية “الكونفدرالية الديمقراطية للشغل” إلى خوض إضراب عام عن العمل في يونيو سنة 1981 احتجاجا على الزيادة في أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية.
وفي هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والإحتقان تبنت منظمة “الشبيبة الإسلامية” خطابا سياسيا تصعيديا، معلنة عن إفلاس الخيار الليبرالي، وأدانت التوجهات الإقتصادية الممنهجة ضد الفقراء المعدَمين، ولم يتخلف المنتسبون لها عن المشاركة في الإضراب العام بمدينة الدار البيضاء والمحمدية في 20 يونيو من السنة المذكورة.
عمت أجواء الإضراب العام، وانتشرت الإحتجاجات السلمية التي تطورت إلى مواجهة أريد لها أن تنزلق إلى مواجهة دموية غير متكافئة، حين تدخلت قوات الجيش والأمن بعنف غير مبرر، استعملت فيه الذخيرة الحية، واكتسحت الدبابات شوارع الدارالبيضاء، ولعلع الرصاص في الأزقة.. وانتشرت رائحة الخوف والبارود والموت في الأحياء الشعبية..
وعندما وضعت هذه الهجمة أوزارها، انكشف المشهد الدموي عن انتهاكات جسيمة، حصدت أرواح عشرات الشهداء الذين دفنوا في قبور جماعية مجهولة، من دون مراسم..كما زجت بمئات المعتقلين داخل السجون في غياب ضمانات المحاكمة العادلة..
إزاء هول الفاجعة وقسوتها، إلتزمت منظمة “الشبيبة الإسلامية” بإحياء ذكرى هذه الأحداث الأليمة وفاءا لأرواح الشهداء الذين نعتهم وزير الداخلية آنئذ إدريس البصري ب”شهداء الكوميرا”.
وانطلاقا من هذا المبدأ أحيت المنظمة في 20 يونيو سنة 1983 الذكرى الثانية ل‘‘الإنتفاضة الشعبية’’عبر الأنشطة التي قامت بها ‘‘فصيلة الجهاد’’ والتي تمثلت في توزيع المنشورات والكتابة على الجدران وتعليق الملصقات ولافتات تحمل عبارات مناهضة لنظام الحكم تحرض على الثورة..، في كل من المحمدية والبرنوصي وعين السبع بالدار البيضاء.
وعلى إثر النشاط الذي قامت به “فصيلة الجهاد” ابتداء من يوم الإثنين 20 يونيو 1983 والذي وافق 10 رمضان 1403 ذكرى وفاة الملك محمد الخامس رحمه الله، انطلقت حملة من الإختطافات استهدفت نشطاء إسلاميين، فبتاريخ 22 يونيو 1983 قامت قوات الأمن باختطاف عدد منهم يقيمون بالحي المحمدي، بتهمة عقد تجمعات سرية والإنتماء لمنظمة الشبيبة الإسلامية. وقد استمرت موجة الإختطاف لتشمل مجموعة أخرى من درب الكبير بتاريخ 03 يوليوز بنفس التهمة السابقة.
واستمرت الحملة حتى اعتقل عضو من ‘‘فصيلة الجهاد’’ في حالة تلبس بالمحمدية في 13 غشت 1983 وهو يعلق ملصقا معاد لنظام الحكم. وبذلك انتقلت الإختطافات إلى صفوف أعضاء الفصيلة في كل من المحمدية وعين السبع والبرنوصي..وبما أنني كنت عضوا من أعضاء “فصيلة الجهاد”، فقد تم اختطافي بدوري بتاريخ 20 غشت 1983 بمدينة المحمدية، وبعد أربعة أيام.. نقلت إلى المعتقل السري بدرب مولاي الشريف معصوب العينين..حيث وجدت من سبقني من المختطفين من المحمدية والحي المحمدي ودرب كبير بالدار البيضاء هناك.. و في يناير 1984 اعتقلت عناصر أخرى كانت قادمة من فرنسا بعد توزيع مناشير بمناسبة انعقاد المؤتمر الإسلامي بالدار البيضاء تحمل توقيع ‘‘حركة الثورة الإسلامية بالمغرب’’ التي وصفها الراحل الحسن الثاني في خطاب له بأنها عناصر خمينية، وفي فبراير من نفس السنة اعتقل عنصرين من ‘‘حركة المجاهدين في المغرب’’ وبحوزتهما أعدادا من مجلة ‘‘السرايا’’ التي كان يصدرها عبد العزيز النعماني بفرنسا.
عندما كان المختطفون يقبعون داخل المعتقل السري بدرب مولاي الشريف بالحي المحمدي بالدار البيضاء، اندلعت إحتجاجات شعبية من جديد في يناير 1984 بكل من الدار البيضاء و الناضور ومراكش. و ينبغي التنبيه أن هذه الإحتجاجات كانت من بين الأسباب التي عجلت بتقديم أفراد مجموعة ال71 الموجودون في حالة اعتقال إلى غرفة الجنايات بمحكمة الإستئناف بالدار البيضاء.
لقد صار عدد المتهمين في قضية المجموعة 51 متهما حضوريا، قضى معظمهم ما يناهز ستة أشهر داخل المخفر السري بدرب مولاي الشريف، إضافة إلى 20 متهما غيابيا، ليكون مجموعهم هو 71 متهما، ومنه اقتبس إسم المجموعة.
عرض المعتقلون منهم على قاضي التحقيق ابتداء من 13 فبراير 1984 بتهمة الإعتداء بهدف دفع الناس لحمل السلاح ضد سلطة الملك، والمس بسلامة الدولة الداخلية ومقدساتها، والمؤامرة ضد النظام بهدف استبداله بنظام آخر، وعدم التبليغ بجناية المس بسلامة الدولة…
وبعد انتهاء أطوار كل من البحث التمهيدي والبحث التفصيلي انطلقت جلسات المحاكمة الماراطونية من 21 يونيو إلى 31 يوليوز 1984 حيث أصدرت استئنافية الدار البيضاء أحكامها حضوريا في حق المجموعة بإدانة 13 متهما بالإعدام منهم سبعة متهمين غيابيا، و 34 متهما بالمؤبد منهم ثلاثة عشر غيابيا، و 8 متهمين بعشرين سنة ، و9 متهمين بعشر سنوات، و7 متهمين بأربع سنوات سجنا نافذة، في قضية رقم 192/84، وقد رفض حق المتهمين في النقض بتاريخ 23 يوليوز من سنة 1985.
وعلى نفس الإيقاع التصعيدي حاولت منظمة “الشبيبة الإسلامية” مرة أخرى في سنة 1985 تسريب مجموعة من عناصرها تطلق على نفسها إسم ‘‘كتيبة بدر’’ إلى المغرب محمّلة بكمية من الأسلحة، غير أنها ضبطت على الحدود الشرقية، وقدّمت مع عناصر أخرى إلى المحاكمة ضمن ما سمي بمجموعة ال26 الإسلامية، التي حوكمت بالدار البيضاء ،وصدرت في حقها أحكاما بتاريخ 02 شتنبر من نفس السنة تراوحت ما بين الإعدام في حق خمسة من عناصر المجموعة ،وواحد بالمؤبد ،وتسعة حوكموا بعشرين سنة ،وواحد حوكم بخمسة عشر سنة ،بينما حوكم واحد من المجموعة بخمس سنوا سجنا نافذا.
وبالموازاة مع ذلك كانت ‘‘حركة المجاهدين بالمغرب’’ المنحدرة من منظمة الشبيبة الإسلامية والتابعة لعبد العزيز النعماني، تحاول تسجيل حضورها..، حيث ألقي القبض سنة 1985 على مجموعة من هذه الحركة بسبب توزيع مناشير بمدينة مراكش، وقدمت إلى المحاكمة التي أصدرت حكمها فيها بتاريخ 24 أكتوبر والذي قضى بإدانة أربعة أشخاص من المجموعة بالمؤبد ،وأربعة بثلاثين سنة، وإثنين أحدهما بخمسة وعشرين سنة، والآخر بعشرين سنة سجنا نافذا.
كما توبعت مجموعة أخرى من نفس التنظيم بنفس المدينة سنة 1986، وصدرت الإدانة بتاريخ 18 دجنبر 1986 في حق واحد بالمؤبد، وآخر بعشرين سنة، إثنان بعشر سنوات، وواحد بثماني سنوات، وثلاثة بخمس سنوات سجنا نافذا.
كانت سجون المغرب في هذه المرحلة تشهد توافدا لمجموعات من المعتقلين السياسيين يساريين وإسلاميين..خلدوا ملاحم في الدفاع عن حقوق المعتقل السياسي ومعتقل الرأي داخل السجون في وقت كانت فيه ﻻئحة الممنوعات تشمل حتى الجريدة والمجلة والمذياع وساعة اليد، والكتب وأحيانا اﻷوراق واﻷقلام..
لقد عشنا طيلة هذه المدة في نضال ومواجهات..وإضرابات لا محدودة عن الطعام خلفت شهداء من اليسار و تركت عاهات مستديمة في صفوف المعتقلين،..كما تعرض المعتقلون السياسيون لسلسلة من الإعتداءات المتواصلة من ترحيل وإبعاد تعسفي وهجوم انتقامي وحرمان من الحقوق.
ولا يمكن نسيان حركة العائلات خارج السجون والمتعاطفين مع قضية المعتقلين السياسيين بالمغرب، حيث كانت أمهات المعتقلين وزوجاتهم وأخواتهم يمثلن درعا لحمايتهم والدفاع عن حقوقهم ولسانا لإيصال صوتهم إلى الرأي العام الوطني والدولي..
لقد كانت العائلات في الواقع هي من عانت أكثر وتكبدت المشاق، ورافقتنا دون تأفف في رحلة العقاب ما بين السجون، أما نحن المعتقلون فكنا نعيش قمة التحدي مقتنعين بأفكارنا اعتقادا منا أننا نخدم قضيتنا العادلة التي كنا على استعداد للموت في سبيلها..
وكما قال ألبير كامو أن الأزمات والقيود هي التي تصنع الإنسان وتظهر ما بداخله من روح المقاومة. فإن ما عرفه المغرب من قمع وإجهاز على الحقوق ومحاولة لإسكات صوت الكرامة أدى في الأخير وأمام الصمود المعتقلين السياسيين وعائلاتهم وكل المساندين لهم إلى تكسير النير، و بداية للعد التنازلي
الذي أدى إلى طي مرحلة من تاريخ المغرب السياسي سميت ب “سنوات الرصاص”.
وانسجاما مع قناعاتهم واصل المناضلون من داخل قلاعهم ومن خارجها فضح الإنتهاكات الجسيمة المرتكبة من طرف الجلاد.. وبقينا في عملية شد وجدب..حتى أعلن الراحل الحسن الثاني رحمه الله عن عزمه إغلاق ملف المعتقلين السياسيين أثناء خطابه في 9 يوليوز 1994، وكلف المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان المنشأ سنة 1990 بإعداد لائحة الأسماء.
وبالفعل حصل الإنفراج السياسي وصدر العفو الملكي الشامل الذي استفاد منه 424 من المعتقلين السياسيين والنقابيين، كما سمح بعودة المنفيين والمغتربين إضطراريا إلى أرض الوطن…
أما بالنسبة لمجموعة ال71 فقد استفادت بدورها من هذا العفو باستثناء المحكومين منها بالإعدام والذي حول إلى السجن المؤبد ليطلق سراحهم بعد أربع سنوات، ما عدا عنصرين من أعضاء “فصيلة الجهاد” حاولا الفرار من السجن المركزي بالقنيطرة سنة 1987 وهي المحاولة التي أدت إلى مقتل أحد حراس السجن، ليمكثا رهن الإعتقال طيلة ما يناهز 25 سنة.
وهكذا لفضت السجون داخل المغرب ثلة من المعتقلين السياسيين السابقين بعدما قضوا سنوات من اﻹعتقال السياسي ارتكبت في حقهم انتهاكات جسيمة لحقوق اﻹنسان خلال هذه المرحلة التي أطلق عليها “سنوات الرصاص”.
و لم يتأخر المفرج عنهم من المعتقلين السياسيين في تأسيس “المنتدى المغربي من أجل الحقيقة واﻹنصاف” إطارا جامعا لهم، سنوات قليلة بعد إطلاق سراحهم..بعدها بادرت الدولة إلى إنشاء “هيئة اﻹنصاف والمصالحة” سنة 2004 ، لتحل محل “هيئة التحكيم والتعويض المستقلة” التي أنشأتها من قبل…
نعم لقد أطلق سراحنا.. وغادرنا السجون سنة 1994 وتنفسنا الصعداء، وتوهمنا أن ساعة الحقيقة والمصالحة الوطنية والإنصاف قد حان دورها سعيا وراء طي صفحة الماضي.. لنكتشف، مع كامل الأسف، أن الإنصاف والمصالحة “سراب..، يحسبه الظمئان ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا..”، حيث لم تضع كل التدابير المتخذة حدا لاستمرار الممارسات المرفوضة التي كانت مدعاة لمعارضتنا..وصار الحال منحصرا فقط في مسألة جبر الضرر المادي لضحايا الإنتهاكات الجسيمة، بغض النظر عن مطالب التغيير وتمتيع المغاربة بكافة حقوقهم السياسية وحقوقهم الإقتصادية والإجتماعية..بينما استمرت فلول الحرس القديم في انتهاكاتها السابقة..
فبعد استراحة قصيرة عرف المغرب أحداثا إرهابية كانت لها تداعيات أعادتنا إلى المربع الأول، و واصل سيزيف معاناته الأزلية، كما عادت حليمة إلى عادتها القديمة..
لقد كان من قدري الإشتغال في “هيئة الإنصاف
والمصالحة” التي أصدرت توصيات مهمة من قبيل “ضمانات عدم تكرار الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان”..لكن ما وقع فيما بعد كان صادما وامتحانا لتوصيات الهيئة..فبدعوى محاربة الإرهاب تم الإلتفاف على كل المكتسبات..، وقد خلفت لنا هذه الإنتهاكات الجديدة جيلا جديدا من ضحايا الإنتهاكات الجسيمة في صفوف ما يسمى بالتيار السلفي. كما أعقبتها موجة من الإعتقالات مع انطلاق الحراك الشعبي في فبراير 2011 وما صاحب ذلك من إجهاز على حرية التعبير والرأي والصحافة، وتراجع في مؤشرات التنمية البشرية، يضاف إلى ذلك ارتفاع نسبة البطالة وغياب ضمانات العيش الكريم…بل و ازدادت الوضعية قتامة بعد جائحة كورونا إذ تم الهجوم على ما تبقى من الحق في التظاهر السلمي من وقفات واحتجاجات، وتغولت مافيا الفساد..وضاق المغرب بما رحب على أبنائه..
لقد عشنا هذه المرحلة من سنوات الرصاص إلى سنة 1999، مليئة بالصراع وتشنج العلاقة ما بين الحاكمين والشعب، فكانت الإعتقالات ومحاولات الإنقلاب العسكري والثورات والانتفاضات الشعبية التي ووجهت بالنار والحديد، وكنا شاهدين على انتفاضة 20 يونيو 1981م والتي كانت منطلقا لحراكنا، حيث وقفنا على قسوة التدخل العسكري وعبثية قنص المواطنين العزل في الدار البيضاء الذين لم يكونون يحتجون سوى ضد الزيادة في أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية، بل أن بعضهم لم يكن مشاركا في تلك المسيرات..
عشنا في مرحلة كانت فيها الشعوب مشبعة بقيم الحرية والكرامة والعدالة، مع الإستعداد للتضحية في سبيل تحقيق ذلك، كما كانت القوى الشعبية لا تتاخر في مواجهة الإستبداد والفساد.. بثورات تنطلق من قاعدة “نكون أو لا نكون”.
لقد نشأ جيلنا في فترة انتقالية ما بين الإستعمار والإستقلال، وكثير من والدينا وأقربائنا انخرطوا في صفوف المقاومة أو جيش التحرير، وقدم الشعب المغربي شهداء لتحرير الوطن من ربقة الإستعمار، وكان كله أمل في أن يعيش في أكناف الحرية والكرامة في ظل الاستقلال، لكن خابت آماله، واستمر الإستعمار الجديد في استغلال المغرب واستحمار المغاربة، و قد ناب عنه أبناء من جلدتنا..
إن نظاما سياسيا مسؤول عن حماية أبناءه و تمتيعهم بحقوقهم التي تكفل لهم الحرية والعيش الكريم، يقوم بتعريضهم للتجويع والقتل والسجن لهو أشبه بعصابة أو مافيا من أكابر المجرمين المقنعين، وأقل ما يمكن القيام به حفاظا على الكرامة والحرية وحماية الإنسان فينا يتمثل في رفض سياسات هذا النظام وفضحها ومناهضتها..لذلك عندما دعا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ربه قال “اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي أمر أمتي فرفق بهم فارفق به” كما أكد على أنه “ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة”.
وهكذا فبدافع المناهضة واستجابة لواجب التغيير قمنا بما قمنا به..
هذه المرحلة المفصلية علمتنا معنى الوطن والحرية، وربتنا على قيم المقاومة والإباء، ولقنتنا أن”الجهاد ماض إلى يوم القيامة” وأن ” من رأى منكم منكرا فليغيره..”.
فهل يا ترى، كان متوقعا منا أمام مكر المسؤولين تمرير سياسة التجويع التي كانت تمتح من قاموس “جوع كلبك يتبعك”؟ ألم ينتبه هؤلاء المسؤولين إلى قول أبي ذر الغفاري رضي الله عنه “عجبت لمن لم يجد قوت يومه، ولم يخرج شاهرا سيفه”؟، مع العلم أن جوعى المغرب البسطاء لم يخطر ببالهم الخروج بالسيف، بل كانوا فقط يريدون التعبير عن رفضهم لسياسة التجويع الظالمة..فإذا بهم يتعرضون لما تعرضوا له..
وهل كان مطلوبا منا ابتلاع ألسنتنا، والسكوت على الظلم والإعتداء الذي أصاب أبناء وطننا العزل؟ وهم يقنصون من فوق السطوح كالطرائد..
هل كان ينبغي لنا نسيان الشهداء ومسامحة الجلاد، وتجاهل المقابر الجماعية وغض الطرف عن قتل “المستضعفين من الرجال والنساء والولدان” الأبرياء.. كأن شيئا لم يقع؟..
أتأمل الزمن الذي مر سريعا، خطونا الخطوات الأولى في درب النضال ونحن شباب يافعون، كلنا حماس ورغبة في التغيير، وقد رسمنا معا لوحة وردية لمغرب المستقبل، رسمناها بآلامنا وصمودنا، واليوم أرى مغربا لا زال يعاني من انتهاكات جديدة ويئن تحت وطأة الفساد والإستبداد، وتهديد القوت اليومي للمغاربة..ف”ما أشبه اليوم بالبارحة”.
لقد صرنا أمام طينة من بني جلدتنا باعت الوطن في حفلة تطبيع بدعوى التنمية، واغتنت على حساب المستضعفين، واستحوذت على المناصب والمكاسب وسرقت منا الوطن. بل صار وضعنا سرياليا كالأيتام في مأدبة لئام لا يرقبون فينا إلا ولا ذمة، يراكمون ثرواتهم بتجويعنا وتفقيرنا ونهب ثرواتنا و التضييق علينا، ولا يخجلون من الجمع، في شراهة غير مسبوقة، ما بين “التجارة والإمارة”، وقد تمادوا في ظلمهم وسلطوا علينا قهرهم الجبائي حتى أصبحت حالتنا أقرب من ما ذكره الشيخ اليوسي في رسالته إلى المولى اسماعيل يشكو إليه جباة مملكته الذين “جرّوا ذيول الظُّلم على الرّعية. فَأَكَلُوا اللَّحْم وَشَرِبُوا الدَّم وامتشوا الْعظم وامتصوا المخ. وَلم يتْركُوا للنَّاس دينا وَلَا دنيا..”.
فما هي الحصيلة يا ترى؟ وماذا حصدنا غير الشوك؟، بينما بقيت الحقيقة غائبة والمصالحة ضائعة واﻹنصاف مفقود..ولم ندفن الماضي..
هذه السنوات العجاف التي مرت منذ إطلاق سراحنا من السجن الصغير، والزج بنا في هذا السجن الكبير، فقدنا فيها الكثير من آباءنا وأمهاتنا، ورحل عنا كوكبة من المناضلين من إخواننا ورفاقنا الذين قاسمونا المعاناة والحلم المشترك، رحلوا وفي صدورهم غصة وأسئلة حارقة..
نعم ما يزال الجرح نازفا والحصيلة هزيلة، فماذا تغير في مغرب الحريات والكرامة اليوم؟ وما آثار سنوات الرصاص، من نضال وتدافع، لتحسين واقع المغاربة الذين ضحينا من أجلهم ؟..أين هي ضمانات عدم التكرار من واقع الممارسات؟
أم أن المسألة لم تكن سوى مناورة سياسية، من أجل امتصاص الإحتقان؟..فتحولت معها أحلامنا إلى كوابيس، بينما أصرت دار لقمان أن تبقى على حالها..
لقد فقدنا الثقة في الأحزاب والنقابات وفي المسؤولين.. إلا من رحم الله، واستيقظنا من وهم الديمقراطية وحقوق الإنسان.. وأدركنا أن التفاهة والضحالة اخترقت كل مجال جاد و واعد ، وفهمنا متأخرين بأن “السياسيون كالقرود في الغابة، إذا تشاجروا أفسدوا الزرع، وإذا تصالحوا أكلوا المحصول”، على حد قول جورج أورويل.
نعم.. يمكن وأد أحلامنا، كما يمكن لكل نضالاتنا وتضحياتنا أن تعجز عن تغيير الواقع..لكننا موقنون أن الإنسان الذي يسكننا قادر على فضح الظلم ومناهضة التعسف والإستبداد، يشهر الممانعة حتى لا يبتعلنا هذا الواقع المرير ويحولنا إلى أدوات لتبرير نزواته، لقد رفضنا أن يغيرنا الواقع بدل تغييره، حينما اختلت موازين القوة، وآثرنا أن نكون مثل الأشجار التي تموت وهي واقفة، ولم نعدم المحاولة للقيام بواجب الشهادة على صراع الحق والباطل. وما يزال الكثير من ابناء ذلك الجيل يؤدون فاتورة رفض الإنحناء للعاصفة، يعانون من القهر والظلم ومن قسوة الحرمان في هذا السجن الكبير.
لكل ذلك صار الرهان عندنا ونحن في خريف العمر أن نستمر في فضح الظلم ورفض كل محاولات المسخ والإبتلاع، داعين الله تعالى أن يلحقنا بإخواننا الذين سبقونا إلى دار البقاء، لا فاتنين ولا مفتونين، ثابتين على الحق غير مبدلين أو مغيرين..
ف”اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصَلُحَ عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك”.
رب “تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ”.
محمد حقيقي : معتقل سياسي سابق مجموعة ال71
المحمدية بتاريخ 29 يوليوز 2025

تعليق واحد

comments user
عبد العالي بريك

أستاذ حقيقي منذ عرفتك سنة 2011 بعد بروز حركة 20. من فبراير وقبلها لكن سنة 2011 عرفتك معرفة حقيقية رغم أنني كنت أجهل معاناتك وحكاياتك داخل سجون الرعب في سنوات صنفت بالجمر والرصاص . إختصار الكلام رغم أن الكلام طويل طويل جدا بحجم المعانات .
لكن الآن وبعد إطلاعي على حجم الظلم الذي تحملته طيلة هذه السنوات أنستني قصتي مع السجون العصرية بقوانين عنصرية بالكاد يستفيد من خدماتها ذوي النفود والمال .عودة إلى شخصك الذي أكن لك كل الإحترام والتقدير فلقد قرأت فيك مألفا يحكي آلاما ومحن لشخص لم يفقد عزيمته ومواقفه تجاه أبناء وطنه رغم كل ماتكبده من ضياع لسنوات من العمر ظلما وجورا لا لشيء إلا أنه أراد حياة كريمة لأبناء وطنه وعدلا منتشرا بينهم وكرامة ترفع من قيمة الإنسان المغربي فنضالك ومغامراتك بين السجون والدفاع عن القضايا العادلة ماهي إلا ثمرة عنفوانك وعزتك وحبك الخير لشعب أراد الحياة فليس عندي ماأظيفه من كلمات في حقك أكثر مما عرفته فيك من أخلاق وقيم ومبادئ قلت في زماننا هذا رجل شهم محارب مغوار لا يقبل الهزيمة ولا يرضى لنفسه التراجع إلى الوراء حتى يحقق أحلامه ليس لنفسه لكن لأبناء وطنه . حكايتك مع سنوات الرصاص ستبقى راسخة في ذهني لن تنسى أبدا فلقد خضت هذه التجربة لكن ليس بحجم شخصك المقتدر وهذا ماجعلني أشعر بآلامك عن ظهر قلب كل مامر عليك من أحذاث ستظل مسجلة في تاريخ الأجيال القادمة وستكتب بحبر من ذهب وسيتعلم منها الصغار والكبار وسيتحذثون عن رجل ترك كل شيء من ورائه من أجل التغير كي يعيشوا في وطن يتسع للجميع فتحية خالصة لك من كل قلبي وستظل دائما وأبدا معلمنا واستاذنا وبطل سنوات الجمر والرصاص .تحياتي الخالصة .
عبد العالي بريك فاس

إرسال التعليق