جبروت الفساد وصمت النخب: فيل في الغرفة المغربية

آخر الأخبار

جبروت الفساد وصمت النخب: فيل في الغرفة المغربية

رصدالمغرب / العلمي الحروني : عضو المجلس الوطني للحزب الاشتراكي الموحد


تروج في الخفاء فضائح خطيرة وملفات فساد مقلقة تطال مسؤولين، بينهم وزراء ومؤسسات كبرى في المغرب، مسنودة إلى موقع يسمى “جبروت”. غير أن ما يثير الغضب ليس مضمون ما ينشر فحسب، بل ذلك الصمت المريب الذي يخيم على المشهد: فلا صوت للأحزاب ولا للنقابات، ولا موقف لمؤسسات المحاسبة القضائية والترابية ولا للمؤسسات الرقابية الرسمية أو الشعبية، أما السلطة الرابعة فهي في سبات عميق، وكأن ما يجري يحدث في كوكب آخر. لقد خرس الجميع، والساكت عن الحق شيطان أخرس وخائن.

لا نلوم الأحزاب الادارية المخزنية الملفقة، فهي أصل الفساد والريع والنهب، إنما اللوم الأكبر يقع على الأحزاب اليسارية وما يسمى بـ”الأحزاب الحية” وأدرعها الجماهيرية، التي تتحمل الوزر الثقيل في هذا الصمت. هذه القوى التي طالما ادعت تمثيل الشعب والدفاع عن العمال والكادحين، أصبحت اليوم تدير وجهها عن الفساد المستشري في البلاد، ولم تستطع حتى القيام بأضعف الإيمان بإصدار بيانات محتشمة. فهي إما منشغلة بمعارك انتخابية هامشية لا قيمة لها في العمق، أو متبنية سياسة “النأي بالنفس” عن صراعات “بيضاوة” (بيناتكم أبيضاوا) ولسان حالها يقول: “خوضوا صراعاتكم بينكم، دعونا على الحياد السلبي”، تجنبا لأي تبعات محتملة. أو أنها وجدت في “أمميتها” بديلا مباركا.

المسألة في المغرب تشبه “الفيل في الغرفة” كما تقول العبارة الإنجليزية، أي أن هناك حقيقة ومشكلة حاصلة ساطعة الوضوح ولا أحد يريد التحدث عنها ويتم تجاهلها بالتمام. هكذا غاب الواجب السياسي كأن الاحزاب جزء من “ديكور ديمقراطي”، كما غاب الواجب النقابي كأن النقابات جزء من ” ديكور اجتماعي” لا أكثر.

على سبيل المثال، كشف موقع “جبروت” عن عدد من الفضائح التي أقر وزير العدل ببعضها صراحة في حوار له مع منبر اعلامي، وأقرت وزيرة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة بعضها ضمنا وأصدرت بلاغا توضيحيا لا يبعد الشبهه في العمق، وهذا ما يجعل تلك الفضائح تتجاوز مستوى الإشاعة لدى الرأي العام إلى مستوى الحقيقة. ورغم خطورة هذه القضايا، مرت من دون أي مساءلة مؤسساتية حقيقية، أو حتى تدخل يسير من القوى اليسارية بطرح سؤال شفوي أو إثارة “نقطة نظام”. وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول حدود مصداقية العمل السياسي ومدى قدرة الفاعلين الحزبيين على استعادة ثقة المواطنين، في ظل ممارسة سياسية تتسم بالخضوع والتواطؤ الضمني.

 

أما مؤسسات الرقابة الرسمية مثل “مجلس المنافسة” و”الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها” و”المجلس الأعلى للحسابات”، فهي تكتفي بإصدار تقارير وخلاصات تركن على الرفوف، بينما مؤسسات المحاسبة القضائية والترابية كالمحاكم والنيابة العامة والمصالح المختصة بوزارة الداخلية تنتظر “تعليمات” قد تأتي أو لا تأتي، فيزداد الفاسدون جبروتا. فلا مساءلة ولا محاسبة. وهكذا يبقى المواطن وحيدا محاصرا وغاضبا من مؤسسات يفترض أنها تمثله أو تحمي مصالحه العليا.

المؤسف أنه مع استمرار تجاهل الدولة، يجد المجتمع المغربي نفسه محاصرا داخل حقل سياسي خنوع وحقل اعلامي غارق في الأمني، ومجتمع مدني مبعد بفعل ” تقنين منع وضعه لشكاوى” أو مغلوب على أمره منهمك بإعداد ملفات تقنية مفبركة بحثا عن الفتات .. الجميع دفن رأسه في الرمال.

إن مسؤولية الأحزاب اليسارية والحية اليوم تاريخية: فمعارك النزاهة وإعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة لا تستقيم مع نهج الصمت والتهاون والخوف، فإما أن تنهض إلى مستوى فضح الفساد، ربيب الاستبداد، ومواجهة منظومة النهب والاستعداد للنضال والتضحية، أو أن تنسحب من معركة الديمقراطية وتترك الشارع يقرر مصيره بعيدا عنها.

إن بعضا مما يروج من فضائح موقع “جبروت” مدوي، فساد اقتصادي وأخلاقي وعبث بالمال العام ونهب للعقار العمومي والتهرب الضريبي من طرف “الحامي الحرامي”، والشعب يطلع و يقرأ ويغضب… فمن يعلق الجرس؟ من يحول الغضب والصرخات إلى معارك سياسية؟

ليس ما يروج من فضائح متداولة في الساحة الوطنية مجرد حدث بسيط عابر أو سحابة صيف، طبعا قد يكتنفه بعض الغموض وقد تغذي الاشاعات بعض جزئياته وجوانبه، غير أنه اختبار حقيقي لمدى جدية الدولة والمجتمع في تكريس الشفافية والعدالة. فالأمر يستدعي من الديمقراطيين الدعوة إلى فتح تحقيق عاجل مستقل وشفاف من طرف الجهات المختصة، قصد تنوير الرأي العام الوطني وحمايته مما قد يكون تضليلا ووضع حد لأي لبس، مع التشبت بمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة واتخاذ الإجراءات القانونية الصارمة، تلك مهمة التنظيمات المناضلة بجعل كل أزمة أو جدل مدخلا للضغط الاجتماعي لتقوية دولة الحق والقانون. وهذا تحت سقف الدستور.

إن الدفاع عن المواطنين الكادحين والعمال والفقراء، وخوض معركة النزاهة ضد الفساد والاستبداد، لا يكون بالشعارات والخطابات الاستهلاكية. فتقاعس النخب اليسارية والحية خيانة لآمال المواطنين الذين علقوا عليهم أملا في جيل سياسي مختلف. بصمتها اليوم، تدفع هذه الأحزاب الناس دفعا نحو اليأس وفقدان الثقة في السياسة برمتها.

إرسال التعليق