بين السنة والشيعة… هل نصنع السلام قبل أن نصبح خبراً من الماضي؟

آخر الأخبار

بين السنة والشيعة… هل نصنع السلام قبل أن نصبح خبراً من الماضي؟

رصد المغرب / عبدالكبير بلفساحي

ليس أسوأ من انقسام الأمة الإسلامية إلا اعتيادها عليه. فحين تصبح الفتنة مشهدا مألوفا، والخطاب الطائفي سلعة متداولة، والآخر المذهبي “عدوا محتملا” منذ الميلاد، فإننا لا نعيش أزمة فكر… بل أزمة ضمير. منذ فجر التاريخ الإسلامي، تباينت الاجتهادات، وتشكلت المذاهب، واختلفت الرؤى حول الحكم، والفقه، والعقيدة.هذا أمر مفهوم، بل صحي أحيانا، لو بقي في حدود الفهم والاجتهاد.

ولكن ما حدث مع السنة والشيعة تجاوز حدود “الاختلاف”، وتكرس مع الزمن كصراع وجود، صراع ظل يتغذى على الدم، ويُضرب فيه التاريخ بسياط الحاضر.

فالخلاف الأول: خلاف سياسي تحول إلى صراع مقدس . ونحن نعلم – ويعلم الجميع – أن الخلاف السني الشيعي بدأ سياسيا. فالخلاف لم يكن حول النبوة، ولا حول القرآن، بل حول من يتولى قيادة الأمة بعد وفاة النبي صل الله عليه وسلم. لكن السياسة لا ترضى بالبقاء في حدودها، فتحوّل الخلاف إلى مادة لاهوتية، ثم إلى روايات متباينة، ثم إلى طقوس متضادة، ثم إلى حدود نفسية بين أبنائنا، لا تُرى بالعين لكنها تعيش في القلوب.

والمذهبية في حد ذاتها ليست كارثة. الكارثة هي حين تتحول هذه المذهبية إلى دين بديل، ومشروع صراع أبدي. وحين تصبح مشاعر المودة والتقارب “خيانة”، والتسامح “سذاجة”، والتفكير في وحدة الأمة “مؤامرة”. حينها لا نكون أمام خلاف فقهي، بل أمام شرخ حضاري حقيقي. ففي كل مرة يجلس فيها مفكر أو كاتب غربي ليحلل “تخلّف العالم الإسلامي”، تظهر أمامه قائمة طويلة: الفقر، الاستبداد، الجهل، ضعف البنية التحتية… لكن لعلّ أخطر ما فيها هو التمزق الداخلي. فكيف يمكن لأمة أن تواجه تحديات التكنولوجيا، والتحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي، والتغيرات المناخية، والأزمات الاقتصادية، وهي منقسمة طائفيا بين أبنائها؟ وكيف تواجه الخارج وهي مشغولة بطعن نفسها من الداخل؟.

إن الصراعات المذهبية لا تُهدد فقط السلم الأهلي، بل تُفرّغ المجتمعات من طاقتها الفكرية والروحية، وتخلق بيئة مثالية للتدخلات الأجنبية. ولعلّنا نلاحظ كيف تُستخدم الانقسامات السنية الشيعية كورقة في كل حرب، من العراق إلى سوريا، ومن لبنان إلى اليمن. فالإعلام، وخاصة الإعلام الديني، مسؤول اليوم عن أكبر موجة استقطاب شهدها العالم الإسلامي في تاريخه الحديث. فهناك منابر تتخصّص في السب واللعن، ومواقع تُعيد تدوير مقاطع تاريخية مجتزأة، وقنوات تُعيد تفسير الماضي لتُشعل حروب الحاضر.

هل هذا هو الدين؟ هل هذه هي “الرسالة الخاتمة” التي أتت لتوحّد بني الإنسان؟ من أين جاء هؤلاء الذين يحوّلون المساجد إلى منابر كراهية؟ وكيف نسمح أن يُستخدم اسم الله لبث الفتنة لا الرحمة؟ فلقد آن الأوان لوقفة جادة مع الخطاب الديني برمّته، لا لمصادرته، ولكن لتقويمه. نحن بحاجة إلى فقه جديد يُفكّك الكراهية، ويقدّم الدين كجسر لا كجدار. ويجعل منه خطاب عقلاني يحترم الاختلاف، دون أن يُسوّق له كعداوة.

فبين السنة والشيعة، ما يجمع أكثر بكثير مما يفرّق. كتاب واحد، ونبي واحد، وقبلة واحدة، وأركان إسلام واحدة، وتراث أخلاقي وإنساني مشترك. أليس من الجنون أن نُحوّل كل هذا إلى وقود للانقسام، بدل أن يكون منصة للوحدة؟ فنحن لا نحتاج إلى التوحد المذهبي، بل إلى التعايش المذهبي. وإلى الاعتراف بحق الآخر في أن يؤمن بما يشاء، دون أن نحمّله وزرًا تاريخيًا، أو نُحاكمه بنصوص مجتزأة. فما المانع أن يكون السنّي متمسكًا بمذهبه، والشيعي معتزًا بعقيدته، لكن دون أن يتحول ذلك إلى سبب للاحتقار أو الشك أو العداء؟ أليست هذه هي روحية الإسلام الحقيقية؟

نحن نعيش اليوم لحظة مفصلية. إما أن نختار العبور إلى المستقبل بأمتنا مجتمعة، أو نُغرقها في مستنقع التنازع حتى لا يبقى منها شيء. لأن السؤال المطروح هو : هل نملك شجاعة المصالحة؟ شجاعة الاعتراف بالأخطاء؟ شجاعة طيّ صفحة الماضي دون تمزيقها؟ فالمصالحة ليست قرارًا سياسيًا، بل ثقافة مجتمعية. تبدأ من البيت، والمدرسة، والمنبر، والإعلام، وتصل إلى القيادات الدينية والسياسية. المصالحة تحتاج إلى نية صادقة، وإرادة حقيقية، وتكلفة… لكنها أقل تكلفة بكثير من الدم.

نحن نُواجه عدوًا حقيقيًا، لكنه ليس مذهب الآخر، بل في داخلنا نحن: في الجهل، في التلقين، في التقديس الأعمى، في الانغلاق، في الخوف من الحوار، في العيش على ذكريات الفتنة. وإذا لم نصنع السلام بين السنة والشيعة اليوم، فقد يأتي الغد ونحن نُصبح مجرد “خبر قديم” في كتب الأمم الأخرى… أمة كان يمكن أن تقود، لكنها اختارت أن تُمزّق نفسها.

إرسال التعليق