
من ظلاميات ابن عربي الحاتمي
رصد المغرب /الدكتور محمد وراضي
لن نقف طويلا عند الرجل. إنه لدى العلماء والمتصوفة والأدباء والفقهاء وعامة المثقفين كنار على علم. غير أن حكم الأطراف جميعها عليه غير موحد وغير منسجم! فمنهم من يصرح بكفره وزندقته! ومنهم من يراه من كبار أولياء الله الصالحين، بل خاتم الأولياء كما يدعي هو لنفسه هذه المرتبة! ومنهم من يعده من ضمن كبار المفكرين المسلمين! ومنهم من يعتبره هرما من أهرام التصوف العقلاني أو الفلسفي! ثم إنه “الكبريت الأحمر” لدى الغالبية العظمى من المتصوفة على مر العصور! إنه محبوب لدى التجانيين إلى حد أن شيخهم الزنديق من مقلديه! ومحبوب لدى القادريين! ومحبوب لدى جميع الفرق المتفرعة عن الشاذلية بدون ما استثناء! إنهم جميعهم يقولون بمسمى “الحقيقة المحمدية” كما أنهم جميعهم تقريبا يقولون بوحدة الوجود! حتى إذا ما تمت البرهنة على أنه زنديق مفتر كذاب، لزم أن يكون جميع المتشبثين به كمتشبثين بغريق! يكفي أنهم باحترامهم وبتقديرهم له أصبحوا كمساهمين في الافتراء على الله وعلى الرسول في الوقت ذاته كما سوف نرى!
وبما أننا نتحدث عن الفكر الظلامي لديه، فمعناه أننا دينيا بأكثر من نص نقلي، لا نكن له أدنى احترام. وإن كنا عقلانيا لا نكتم إعجابنا به من بعض الوجوه! وحتى لا نتهم من طرف أي كان بالتحامل المجاني على الرجل، نقدم من البراهين ما نعتقد أن غيرنا ممن كانوا ولا يزالون يقدسونه ويقدرونه سوف لا يمتنعون عن التمعن في مضامينها إن هم من طلاب معرفة الحقيقة معدودون.
1- بلغ إعجاب أبي مدين الأندلسي – الجزائري بتلميذه ابن عربي مبلغه عندما لقبه ب”سلطان العارفين”! وأبو مدين – كما نعرفه – من أنجب تلامذة المدرسة الغزالية بالمغرب. فيصح أن يكون ابن عربي معروفا لدى الأوساط الصوفية المغربية قبل النصف الأخير من القرن السابع الهجري لأنه توفي عام 638ه.
فقد كانت القضية الكبرى عنده “هي أن الحقيقة الوجودية واحدة في جوهرها، وذاتها متكثرة بصفاتها وأسمائها، لا تعدد فيها إلا بالاعتبارات والنسب والإضافات. وهي قديمة أزلية لا تتغير، وإن تغيرت الصور الوجودية التي تظهر فيها. فهي بحر الوجود الزاخر الذي لا ساحل له. وليس الوجود المدرك المحسوس إلا أمواج ذلك البحر الظاهرة فوق سطحه. فإذا نظرت إليها من حيث ذاتها قلت هي “الحق”. وإذا نظرت إليها من حيث صفاتها وأسماؤها: أي من حيث ظهورها في أعيان الممكنات قلت هي “الخلق” أو العالم، فهي الحق والخلق، والواحد والكثير، والقديم والحادث، والأول والآخر، والظاهر والباطن، وغير ذلك من المتناقضات”[1] التي يحلو (لابن عربي) أن يكثر من ترديدها. وهذا المذهب هو المذهب المعروف بوحدة الوجود. وقد قرره ابن عربي في جرأة وصراحة في غير ما موضع من “الفصوص” (أو قرره له بالأحرى رسول الله ص كما سنرى!!!) كما قرره في “الفتوحات”. من ذلك قوله: “فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها”[2].
فما نظرت عيني إلى غير وجهه ولا سمعت أذني خلاف كلامه[3]
وتستدعي الحقيقة الوجودية – في نظر ابن عربي – شروحا وتوضيحات، أفرغها مفصلة في “الفتوحات المكية” بأجزائها الخمسة. بحيث إن قارئها يجد صعوبة في القبول بمختلف الأفكار والآراء والخواطر التي يوظفها لإيصال فكرة وحدة الوجود إلى المنخرطين، وإلى غير المنخرطين في التجربة الصوفية.
إنه يتحدث أولا عن “علم العقل” وهو كل علم يحصل لك ضرورة، أو عقيب نظر في دليل، بشرط العثور على وجه ذلك الدليل”[4]!
ويتحدث ثانيا عن علم الأحوال الذي “لا سبيل إليه إلا بالذوق، فلا يقدر عاقل أن يحده، ولا يقيم على معرفته دليلا البتة، كالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر، ولذة الجماع والعشق والوجد والشوق”[5]!
ويتحدث ثالثا عن علم الأسرار “وهو العلم الذي فوق طور العقل. وهو علم نفث روح القدس في الروع. يختص به النبي والولي”[6]!
ومع تقسيمه للعلم إلى الأنواع الثلاثة هذه، يغلق الباب أمام أي دارس تدفعه رغبة التأكد من صحة آرائه وآراء غيره من صوفية “الأذواق” و”المواجيد” و”الأسرار”. بحجة أن “الأذواق” و”المواجيد” أحوال شخصية وتجارب ذاتية. وأن “الأسرار” مدركات فوق طور العقل، وأن التسليم بكل ذلك هو الملاذ الأخير لغير المنخرطين في علوم القوم. وبالتالي فإن مصطلحاتهم – كما قال القشيري والغزالي – لن يدركها الغرباء عن دوائرهم المغلقة! مما يعني أن الراغب في التعامل مع الأسرار الصوفية ليس لديه سوى التسليم من جهة، والتخلي تماما عن الاعتماد على العقل من جهة ثانية!
إن الرجل إذن باختصار شديد، يتحدث عن الوجود المطلق، عن الوجود الذي لا تدرك حقيقته عن طريق العقل اعتمادا على أدلة أو على براهين! كما أن حقيقته لا تدرك اعتمادا على تذوق الأحوال، وإنما تدرك فقط عن طريق نفث روح القدس في الروع الذي هو القلب، أو النفس، أو الذهن، أو العقل! ونفث روح القدس في القلب، وسيلة للإدراك لا يملكها غير الأنبياء والأولياء! يعني أن القول بوحدة الوجود نتيجة للوحي، لا نتيجة للبرهنة العقلية! مع أن ابن عربي يخاطب عقولنا لإقناعنا بما يدخل عنده هو في باب الإيمان!
فإن قال بالحرف شعرا: “فما نظرت عيني إلى غير وجهه” يعني أن كل المرئيات أو المبصرات التي يقع عليها بصره هي الله عز وجل!!! وإن قال بالحرف شعرا كذلك في الشطر الثاني من البيت:”ولا سمعت أذني خلاف كلامه” يعني أن جميع الأصوات الصادرة عن كافة الموجودات هي صوت الله عز وجل! إذ لا وجود في الكون كله لغيره سبحانه!
إنه إذن يطلب منا كمخاطبين (بفتح الطاء) أو كمتلقين أن نعتبر الكلب الذي يمر أمامنا إله رب العالمين بعينه! كما يطلب منا أن نعتبر الخنزير والحمار والبغل والقنفذ إلهنا الذي نعبده! وفي الوقت ذاته يريدنا أن نقتنع بأن الأصوات الصادرة عنا وعن كائنات أخرى غيرنا هي صوت الله سبحانه وتعالى! لكننا نرفض اعتمادا على عقولنا وعلى النصوص الدينية من قرآن وأحاديث هذه المزاعم الضلالية الظلامية الفاسدة التي لا تستند إلى أي أساس نقلي، ولا إلى أي أساس عقلي، ولا أي أساس تجريبي!!!
ولما انتهى ابن عربي إلى القول بوحدة الوجود عن طريق ما أمده به روح القدس أو رسول الوحي، فما علينا غير التسليم أو التصديق بما انتهى إليه. تماما كما نسلم بكل ما انتهى إلى البشير النذير عن طريق جبريل كوحي من ربه.
وبما أن الوحي من الله عز وجل. وبما أنه ص كان يتلقاه منذ بعثته حتى التحاقه بالرفيق الأعلى. وبما أنه يتمتع بصفات الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة. وبما أنه كان يعمل طوال حياته بقوله عز وجل: “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم”[7]. وبما أنه قام فعلا إلى جانب التبليغ ببيان ما نزل عليه وشرحه وتوضيحه من خلال سننه القولية والفعلية. وبما أنه قال في حجة الوداع – وهو يخاطب الحاضرين -: “اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد”[8].
فمعنى ذلك كله بوضوح لا لبس فيه ولا غموض معه، هو أنه لم يترك مما أمر بتبليغه أي شيء يتولى من سواه تبليغه بعد موته نيابة عنه! وبما أننا لم نجد لا في الكتاب ولا في السنة ما يفيد بأن الله والكون بجميع محتوياته شيء واحد أو حقيقة واحدة! يعني أن “الحق” هو “الخلق” والعكس صحيح. فما عرضه علينا ابن عربي بديهيا بدعة ضلالية ظلامية! لا نملك حيالها إلا الرفض التام بأمر من المختار ص. فقد حذرنا أيما تحذير من الابتداع في الدين. ثم إنه تعالى لم يأمرنا بتلقي نوعين من الوحي والعمل بهما! وحي أوحى به إلى نبيه. ووحي أوحى به إلى ولي من المفروض أن يكون تابعا لنبيه! وإلا لكان لزاما علينا أن نكون أتباعا طائعين لكل ولي مزعوم يدعي أن روح القدس أتاه بحقائق جديدة ما أتي بها إلى المختار ص ذاته!
فهل نصدق كتاب ربنا وسنة نبينا، أم نصدق الزنديق ابن عربي ونظراءه من القائلين بوحدة الوجود؟ وهل نقول معه: إن الحمار إله! وإن الكلب إله! وإن هبل إله! وإن فرعون إله؟ على اعتبار نظرية التجلي القائلة بأنه سبحانه يتجلى في كل شيء لأنه عين كل شيء، أو لأن كل شيء مجرد مظهر من مظاهره، أو صور طبق الأصل من صورته؟ بحيث إنها قديمة أزلية مثله لا مخلوقة ولا محدثة قابلة للفناء، لا للبقاء الأزلي؟
2- إن تم رفض وحدة الوجود التي يقول بها ابن عربي عقلا ودينا، يعني أن التوصل إلى القول بها عقلا متعذر. كما أننا لم نجد لها أي أثر يذكر في كل من القرآن والحديث! وإنما هي نتيجة للوحي الذي يتلقاه الأولياء بكيفية مباشرة عن الله كصاحب موسى الذي يقال إنه الخضر! أو بكيفية غير مباشرة كنبينا عليه الصلاة والسلام. فإن ما يترتب أو يبنى على القول بها يحيلنا على جملة من المفاسد التي نوجزها في الآتي:
أ- طريقة الوصول إلى القول بوحدة الوجود ضربة في الصميم لمفهوم الوحي من جهة! وإساءة مباشرة إلى الدين عامة من جهة ثانية. وإساءة إلى المختار خاصة من جهة ثالثة. وتضليل كل مؤمن ومؤمنة من جهة رابعة. والافتراء على الله والجرأة عليه من جهة خامسة. والإساءة إلى التفكير ونتائجه المنطقية من جهة سادسة.
فإن قال تعالى – متحدثا عن صاحب موسى في سورة “الكهف”، وهو المسمى عند المتصوفة بالخضر- “فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما”[9] فإن ما استخلصه كبار المشايخ المتصوفين في الآية هو وجود “العلم اللدني” المقابل ل”العلم الكسبي” أو “الحقيقة” المقابلة ل”الشريعة”!
فإن كان موسى يمثل “العلم الكسبي” أو”الشريعة”، فإن صاحبه المذكور يمثل “العلم اللدني” أو”الحقيقة”! فإن ما لدى النبي موسى وحي من الله إليه بواسطة جبريل، بحيث إنه يمكن تعلمه بعد أن بلغه للناس لأي راغب في تعلمه أو في تحصيله. كما هو شأن المتعلمين من المسلمين الذين أصبحوا بفضل الكتاب والسنة علماء وفقهاء ومتكلمين.
أما ما لدى الخضر من العلم، فوحي من الله مباشرة بدون ما واسطة تذكر! مما يعني أن هناك بونا شاسعا بين علم يتلقاه الإنسان بواسطة، وبين علم يتلقاه بدونها. إذ النتيجة المتوقعة من هذه المقاربة لا شك، هي أن صاحب موسى أعلم من موسى وأفقه منه! كما أن الولي التابع لنبينا في الظاهر أفضل من النبي في الباطن لتوفره على علمين: علم كسبي (تابع فيه للرسول)، وعلم لدني غير تابع له فيه.
وإن أضفنا إلى هذه الأطروحة قناعة المتصوفة بوجود خاتم الأولياء وابن عربي هو هذا الخاتم كما يدعي! توقعنا أن يكون خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وأعلى مرتبة منه! بل وأفضل حتى من جميع الأولياء وفي طليعتهم الصحب الكرام والتابعون وكبار العلماء والمحدثون والأئمة المجتهدون، ما دام هؤلاء جميعهم كمتبوعهم نبي الهدى والرحمة لا يملكون مثله غير علم واحد هو العلم الكسبي!!!
قال ابن عربي في “فصوص الحكم”: “وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء. وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم. ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم! حتى إن الرسل لا يرونه – متى رأوه – إلا من مشكاة خاتم الأولياء. فإن الرسالة والنبوة – أعني نبوة التشريع ورسالته – تنقطعان، والولاية لا تنقطع أبدا. فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل في التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه، ولا يناقض ما ذهبنا إليه. فإنه من وجه يكون أنزل، كما أنه من وجه يكون أعلى. وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم! وفي تأبير النخل! فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة. وإنما نظر الرجال إلى التقدم في رتبة العلم بالله. هناك مطلبهم. وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها فتحقق ما ذكرناه”[10]!
فإن كان الرسل بكونهم أولياء لا يرون بعض الأسرار التي هي العلوم “اللدنية” أو “الوهبية” إلا من مشكاة خاتم الأولياء – وابن عربي للتذكير هو هذا الخاتم كما يدعي – فإن قيمة الولي بإطلاق، لا يقدح فيها كونه تابعا للرسول في الظاهر، حيث مرتبته أدنى من مرتبة متبوعه. ولكن مرتبته أعلى في الباطن اعتمادا منه على علوم لدنية نبينا مفتقر إليها تمام الافتقار! أو هو بعبارة أخرى لا يتوفر عليها! والدليل هو الحكم الذي اقترحه عمر بن الخطاب في أسرى غزوة بدر الكبرى! فقد اهتدى إليه كوحي مباشر من الله، في حين أن الرسول الموحى إليه بواسطة جبريل لم يهتد إليه! ونفس الشيء يقال عن تأبير النخل. إذ وجد ص جماعة من أصحابه يؤبرونه، فوجههم إلى تركه، لكن أحدهم أخبره بأن التأبير يساعد على تحسين الإنتاج وتوفيره. فكان أن رد عليه الرسول بقوله: “أنتم أدرى بأمور دنياكم”[11]!
فإن كان النبي ص كاملا “فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة”! فعمر في أسرى بدر تقدم عليه! ومثله المؤبرون للنخل في فوائد تأبيره! لكن بما أن الرجال (= الأولياء) لا تعلق لخواطرهم بحوادث الأكوان كعمر والمؤبرين للنخل!وإنما نظرهم “إلى التقدم في رتبة العلم بالله”[12]. فلا مانع من وصول أحدهم إلى مراتب أعلى بكثير من مرتبته ص في العلم به! والنتيجة أن هناك أولياء أعلم بالله وبأسراره من النبي ص ذاته! يعني أن الرسول على سبيل المثال، عجز طوال حياته عن الوصول إلى أنه لا يوجد في العالم غير الله! وإلى أن الله والعالم شيء واحد! وهذه هي الزندقة وإلا فلا!!!
ب- في القول بوحدة الوجود تأييد سافر صريح للقول بوحدة الأديان، فالأصنام مجلى للحق سبحانه (= مرايا تنعكس عليها صورته!)، مثلها مثل جميع المخلوقات! إذ لما كانت كلها مجلى له، لزم أن يستوي عابد البقرة مع عابد النجوم وكل أنواع الأوثان! ولزم بالتالي أن يكون معبود البشرية جميعها واحدا في الحقيقة وفي الواقع لا في الوهم ولا في الخيال!
ج- إذا كان “الحق” هو “الخلق” فمن السائل ومن المسؤول متى فهم بأن الله هو الإنسان وأن الإنسان هو الله؟ فهل يسأل الإنسان نفسه ويعاقبها ويحاسبها ويجازيها في الحياة وبعد الممات؟ وما الفائدة من ذكر البعث والميزان والصراط والجنة والنار؟
د- يقول ابن تيمية في فتاويه “من ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد ص من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد، فهذا كافر ملحد! وإن قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب، فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فكانوا كفارا بذلك، وكذلك هذا الذي يقول: إن محمدا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن، آمن ببعض مما جاء به، وكفر ببعض فهو كافر، وهو أكفر من أولئك”[13].
2- من باب الأسرار التي يدركها الأولياء كعلم لدني، أو ككشف صوفي يتم بعد خطوات من مجاهدة قاسية يحضر فيها السهر والصمت والجوع والعزلة، قول ابن عربي في “الفتوحات المكية”: “ورب حديث يكون صحيحا من طريقة رواته، يحصل لهذا المكاشف الذي قد عاين هذا المظهر، فسأل النبي ص عن هذا الحديث الصحيح فأنكره وقال له: لم أقله ولا حكمت به، فيعلم المكاشف ضعفه، فيترك العمل به عن بينة من ربه! وإن كان قد عمل به أهل النقل لصحة طريقته! وهو ( في ) نفس الأمر ليس كذلك”[14].
3- لم يكتف الزنديق ابن عربي بالترويج لزندقته، وإنما ادعى أن الرسول هو الذي مكنه منها وأمره أن ينشرها في الناس كي ينتفعوا بها حيث قال: “أما بعد: فإني رأيت رسول الله ص في مبشرة أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق، وبيده ص كتاب، فقال لي: هذا “كتاب فصوص الحكم” خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به!!! فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا، فحققت الأمنية (أي أمنيته ص)! وأخلصت النية (لتنفيذ أمره!) وجردت القصد والهمة (أي لم أربطهما بأي هدف دنيوي أو أخروي) إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله ص من غير زيادة ولا نقصان”[15]!!!
يعني أن كتاب “الفصوص” من تأليفه ومن توقيعه ص! قدمه للزنديق الأندلسي – المغربي، وأمره أن يقوم بنشره كي تنتفع به أمته! وكأنه ص مأمور بإنهاء تبليغ ما لم يتمكن من تبليغه وهو على قيد الحياة! وما لم يتمكن من تبليغه هو مفهوم التوحيد الخالص الذي يرى في الموجودات كلها إله رب العالمين! وبعبارة أخرى لا يرى فيها غير الإله نفسه! إذ أنه لا يوجد في الكون جميعه غيره سبحانه! فضلا عن كونه ص يريد إبلاغ أمته بأن الأولياء بما لهم من علم “لدني” أفضل منه وأنه يستفيد الكثير من خاتم الأولياء! نظرا لعجزه هو عن إدراك ما يتم لهذا الخاتم الوهمي الظلامي إدراكه! يعني في النهاية أن كل مضمون “الفصوص” لم يصدر عن غيره ص! فابن عربي لم يكتب فيه حرفا واحدا من عنده! والعهدة – كما يقال – على الراوي! ثم إن اللعنة على الكاذبين الذين لا يعرفون من الحياء غير اسمه! مع أن الحياء شعبة من الإيمان!!!
[1] – نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام. ص 39. سارة بنت عبد المحسن بن عبد الله بن جلوا. ط 1. عام 1411ه -1991م.
[2]– فصوص الحكم. ص 25. ابن عربي الحاتمي. تعليقات أبو العلاء عفيفي. ط 2. عام 1400ه – 1980م.
[3]– ن.م. ص 25.
[4]– الفتوحات المكية. 1/139. ابن عربي الحاتمي (1392ه – 1972م). تحقيق وتقديم د. عثمان يحيى. تصدير ومراجعة د. إبراهيم مذكور.
[5]– ن.م. 1/139.
[6] – ن.م. 1/139.
[7]– سورة النحل: 43.
[8]– فقه السيرة. ص 488. محمد الغزالي. ط 7. 1976م.
[9]– سورة الكهف: 64.
[10]– فصوص الحكم. ص 62-64.
[11]– فصوص الحكم. ص 63.
[12] – ن.م. ص 63.
[13]– فتاوي بن تيمية
[14]– الفتوحات المكية. 1/358-359.
[15]– فصوص الحكم. ص 47.
إرسال التعليق