حين يفضح الفن ما تخفيه السياسة

حين يفضح الفن ما تخفيه السياسة
رصدالمغرب / عبدالكبير بلفساحي
في زمنٍ التبست فيه المعاني، وأصبحت السياسة تمارس ببرودة كأنها صفقة تجارية لا شأن لها بالناس، يطل الفنان الصادق كضمير حي يذكرنا بأن الجمال يمكن أن يكون سلاحا، وأن السخرية قد تكون أصدق من الخطب الرنانة، حيث الفنان الحقيقي حين يتحدث بصدق بعيدا عن الاصطفاف الحزبي والمصالح، يستطيع أن يرسم صورة كاريكاتورية للواقع السياسي، لكنها أكثر واقعية من بيانات الحكومات وتقاريرها.
الفن في جوهره، ليس ترفا ولا وسيلة للترفيه فحسب، بل هو موقف، والفنان متى ما نأى بنفسه عن التملق السياسي، يصبح شاهدا على عصره، وناقدا لمجتمعه دون أن يرفع شعارات أو يطلب سلطة، بينما أولئك الذين غادروا الفن إلى السياسة ظنا منهم أنهم سيصلحون العالم، سرعان ما تحولوا إلى مروجين لما كانوا ينتقدونه بالأمس، مكرسين بذلك نموذج “الفنان-السياسي” الذي يسبح بحمد من أوصله إلى الكرسي، ويقدس له دون وعي ولا خجل.
في المقابل حين ننظر إلى تجربة الثنائي سعيد ووديع، نجد نموذجا للفن الذي يعبر عن الناس دون وصاية، ويسخر من العبث السياسي دون خوف، حيث جسدا بأسلوبهما البسيط والعفوي، ما تعيشه حكومة أخنوش من تناقضات وفجوات بين الوعود والواقع، فهما لم يرفعا شعارات سياسية مباشرة، ولم يدعيا النضال، لكن فنهما كان أبلغ من ألف بيان حزبي، لأنهما يضحكان الناس، نعم، لكن خلف الضحك وجع كبير، ووعي يتسلل إلى العقول دون ضجيج.
ولعل المفارقة أن مثل هؤلاء الفنانين لا يُطستدعون إلى “الممارسة السياسية” إلا حين تحتاجهم لوبيات الفساد لتجميل الصورة، أو لتسويق مشروع فاشل تحت لافتة “الإبداع الوطني”، حيث عندما تنتهي الحاجة إليهم، يعادون إلى الظل كما يعاد الممثل إلى الكواليس بعد انتهاء دوره، حيث الفنان الحقيقي، فلا يشترى، لأنه يعرف أن الصدق الفني أغلى من أي منصب أو امتياز.
ولنعد بالذاكرة إلى الفنان الكبير الحاج محمد الجم، الذي قدم نموذجا نادرا للفنان الذي يفهم السياسة بعمق، دون أن يتحول إلى سياسي، فقد لخصها ذات يوم في عبارة بسيطة، وهي أن “السياسة إما أن تكون مع أو ضد.”، حيث هذه الثنائية القاسية تعبر عن واقعنا اليوم، وهو إما أن تصفق وتطبل وتبرر، أو تصنف ضمن “الضد” الذي يجب إسكات صوته، تلك هي سياسة أخنوش ورفاقه، حيث الولاء أهم من الكفاءة، والمجاملة تغلب على النقد، والتملق طريق مختصر للترقي كما يفعل صبيه.
لكن المشكلة في نهاية المطاف، لا تكمن فقط في الحاكم ولا في الحكومة، بل فينا نحن، لأننا نحن الذين نمنح الشرعية للعبث السياسي كل مرة، تحت اسم “الديمقراطية”. ديمقراطية تحكمها الأرقام لا الوعي، وتتحكم فيها العاطفة أكثر من العقل، لأن في مجتمعات كهذه، تصبح الأغلبية رقما مخيفا، لأنها لا تصنع التغيير، بل تكرس الرداءة، وهكذا نجد أنفسنا مرغمين، كما قال الكاتب جورج برنارد شو ذات يوم، علينا احترام الأغبياء لأنهم الأغلبية.
إنّ الديمقراطية الحقيقية لا تقوم على الصناديق فقط، بل على وعي الناس بما يختارونه، وأما حين تغيب الثقافة ويقتل النقد، تتحول الانتخابات إلى استفتاء على الولاء لا على الكفاءة، وفي هذه الأجواء، يصبح الفنان الصادق غريبا، لأن صوته يزعج من اعتادوا الصمت، وضحكه يحرج من تعودوا على التقديس.
لذلك، يبقى الفن آخر حصون الحقيقة، فحين يصمت السياسي، ويتواطأ المثقف، ويكذب الإعلام، لا يبقى إلا الفنان الغير المستقطب ليقولها بطريقته، نحن نرى ما تفعلون، ونضحك. لأننا نبكي من الداخل.
إرسال التعليق