
الحقل الديني في المغرب في مفترق الطرق ثانيا: وزير الأوقاف بنكهة وزير الداخلية
رصد المغرب/عبد المولى المروري
لم يكن تعيين السيد أحمد توفيق على رأس وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مجرد تغيير وجوه وتجديد مؤسسات، بل جاء ذلك في سياق وضع دولي متوتر، وإعادة ترتيب الوضع السياسي المغربي وفق رؤية العهد الجديد..
فأما الوضع الدولي المتوتر الذي تزامن مع هذا التعيين، أو ربما بسببه، كان عقب أحداث 11 شتنبر 2001 التي وقعت في عقر الولايات المتحدة الأمريكية، وأما إعادة ترتيب الوضع السياسي المغربي فكان ذلك بعد «الخروج من المنهجية الديمقراطية» على حد تعبير عبد الرحمان يوسفي..
أحداث 11 شتنبر روج لها بأنها كانت بخلفية دينية، الأمر الذي استدعى من الدولة المغربية اتخاذ تدابير أمنية، قانونية ودينية من أجل محاصرة التدين الذي قد يفضي إلى أعمال إرهابية مماثلة.. حسب زعم منظري العهد الجديد!
في الجانب الأمني قامت الدولة بأوسع حملة اعتقالات في المعتقل السري سيء الذكر بتمارة، وأقامت أغرب المحاكمات التي عرفها المغرب منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وكان من أبرز المعتقلين العالم الجليل والمجاهد مولاي الحسن بن علي الكتاني الذي حافظ على مبادئه وقيمه، ومحمد عبد الوهاب رفيقي المشهور ب: أبو حفص، والشيخ محمد الفيزازي قبل أن تجرفهما رياح “الوقت” حيث استقر بهما الآن..
توج المسار الأمني بفرض قانون مكافحة الإرهاب سنة 2003 الذي ذهب ضحيته مئات الأبرياء في محاكمات معظمها كانت صورية وتفتقد إلى كل ضمانات المحاكمة العادلة..
وفي هذا السياق المتقلب جاء تعيين أحمد التوفيق مع حكومة رجل الأعمال إدريس جطو بتاريخ 7 نونبر 2002 بعد انتخابات هذه السنة نفسها.. والخروج عن المنهجية الديمقراطية الذي به تكشف توجه الدولة في المستقبل..
أحمد التوفيق الباحث في التاريخ والتراث الإسلامي، القادم من خلفية فكرية صوفية، وصاحب الأطروحة الجامعية “الزاوية الدلائية؛ دراسة في التاريخ الثقافي والاجتماعي للمغرب في القرن 17” ، والمتعاطف جدا مع الزوايا المغربية، ولا سيما الزاوية البودشيشية التي تحظى برعاية خاصة من طرفه، توسع نفوذها بشكل ملفت في عهده.. لا يذكر له شيء في مجال الكتابات والدراسات والأبحاث الإسلامية، ولا يُعرف له بحث أو مقال أو دراسة ذات طابع علمي أكاديمي في العلوم الإسلامية، إلا ما يتلوه أمام الملك في كل سنة خلال افتتاح الدروس الحسنية الرمضانية.. وبعض الرويات الأدبية..
الوزارة هي منصب سياسي، وليست منصبا علميا أو أكاديميًا يتطلب من صاحبه أن يكون متخصصا فيه. كما أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المغرب ليست وزارة سياسية بالمفهوم المتعارف عليه ديمقراطيا، بل هي وزارة سيادية، مكانتها خارج التقاطبات السياسية والتعيينات الحزبية، وموقعها داخل أسوار المشور السعيد أعطاها خصوصيتها ورمزيتها عن باقي الوزارات السيادية وغير السيادية الأخرى، لذلك فهي تابعة سياسية ودينيا وجغرافيا إلى القصر..
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية هي امتداد عضوي وبنيوي للمخزن الديني، من خلالها يتم الترويج لمفهوم الإسلام على النمط الملكي المغربي كما تم تأسيسه واعتماده في عهد الدولة العلوية.. لذلك كان ويجب أن يستمر في طابعه التقليدي شكلا ومضمونا.. بدءا من طقوس البيعة وحفل الولاء، إلى احتكار وفرض العقيدة الأشعرية ومذهب الإمام مالك، ثم تصوف الجنيد.. واعتبار الخروج على هذا النوع من «التدين» هو خروج عن مذهب الأمة المغربية.. وهذا ما يصطلح عليه سياسيا : «الإسلام الرسمي».. أو بعبارة أخرى «الإسلام المخزني»..
أمام توسع التيار الإسلامي وتجذره في المجتمع، والذي وإن كان يتبنى المذهب المالكي إلا أنه موضوعيا متأثر إلى حد كبير بالفكر المشرقي لأسباب لا يتسع المقام هنا للتفصيل فيها، وهذا في حد ذاته يشكل إزعاجا فكريا ودينيا للدولة، وإذا أضفنا تبني هذا التيار للخطاب الإسلامي، فإن ذلك يعتبر – من جهة أخرى – مزاحمة غير مرحب بها للدولة في احتكار “تمثيل” الإسلام من خلال مؤسسة إمارة المؤمنين، الأمر الذي لابد أن تجد له الدولة حلا سريعا من خلال مجموعة من التدابير..
أحمد التوفيق شخصية مثالية ونموذجية لمنصب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية لهذه المرحلة من أجل تنفيذ هذه التدابير والسهر عليها، وذلك للاعتبارات التالية:
1/ تكوينه الشرعي محدود جدا، ولا يتجاوز المجهود الذي بذله في أطروحته الجامعية في الشق المتعلق بالزوايا، بحيث لا يتوفر على رصيد علمي رصين في أي فرع من فروع العلوم الإسلامية بالشكل الذي يؤهله لإعطاء رأي فقهي أو فكري، أو موقف قوي أو تحفظ مبدئي… يهم قضايا معينة من منطلق شرعي، وهذا واضح من خلال بعض تصريحاته التي سأعود إليها في هذا المقال..
فهو يُعرف بانتمائه إلى المدرسة الصوفية التجديدية!؟ ويعتبر التصوف أحد مداخل تهذيب النفس وتحصين المجتمع، وله مواقف ناقدة أو معارضة لدمج السياسة بالدين، ويدعو إلى الاحتراز من الخلط بينهما.. لذلك تجده يروج لما يسميه “الإسلام الروحي” في مقابل “الإسلام السياسي” الذي يراه خطرا على الأمن والاستقرار..
2/ شخصيته “هادئة” إلى ضعيفة أمام السلطة (كما يبدو)، حيث تغلب على شخصيته «الدروشة» في حضرتها، هذه الدروشة التي تغلف شخصيته يكذبها واقع الحال الذي يؤكد أنها تنهل من ثقافة وسلوك وإجراءات المخزن عندما ينتقل إلى مقر الوزارة.. وهذا واضح من خلال مجموعة من التدابير والإجراءات والقرارات التي اتخذتها وزارته، ولي عودة إليها هي الأخرى في هذا المقال..
3/ أحمد التوفيق ليس رجل سياسة كما هي متعارف عليها في العمل السياسي، وليس رجلا أكاديميًا له أبحاث ودراسات متميزة، رغم أنه كان أستاذا بدار الحديث الحسنية، وليس مفكرا له أطروحة فكرية أو سجالات ومطارحات في الساحة الفكرية والثقافية، وكان لها تأثير أو ردود فعل ثقافية وفكرية.. بل هو رجل تقني بالمعنى الضيق للكلمة، ينظر إلى وزارة الأوقاف كجهاز تنظيمي تأديبي خدماتي.. لذلك تجده يرفض الاجتهاد الفردي في المنابر والخطب، ويدعو إلى “التوحيد المنهجي والمفاهيمي” للخطاب الديني حفاظا على “وحدة الأمة”، ويشدد على أن الخطاب الديني لا ينبغي أن يتجاوز “الخطاب المأذون” به من طرف الدولة، حتى لا ينفلت من ضوابط الوحدة المذهبية والشرعية التاريخية..
4/ ورغم أنه لا يعبر صراحة عن تبني العلمانية، إلا أنه يدعو ضمنيا إلى تحييد الدين عن السجال السياسي والحزبي، وهذا واضح من خلال تصريحاته ضد الإسلاميين عموما، والذين يمارسون الخطابة أو الدعوة على وجه الخصوص، وذلك نابع من تخوفه من “تسييس الدين” و”تخريب” المسجد حسب زعمه.. لذلك فإنه يرى أن الدعوة الدينية لا يجب أن تكون ميدانا للصراع أو التنافس الانتخابي، ويعبر عن هذا ب”الحكمة” والخوف من “الفتنة”..
ويمكن أن نؤكد أن أحمد التوفيق يمثل تيار الدولة المحافظ روحيا، والإداري مركزيا، وغير المهادن سياسيا إذا اقتضى الأمر، لذلك أنيط به إعادة تشكيل الحقل الديني وفق تصور مخزني لا يقبل التجاوز ولا الاجتهاد خارج الخط الرسمي للدولة.. وهذا ما يتضح من خلال إجراءاته وتدابيره وتصريحاته التي يمكن للقارئ والمتتبع أن يلاحظها، ونجملها فيما يلي:
1/ اهتمامه المثير بالأضرحة والزوايا:
ذكرت بعض التقارير أن وزارة الأوقاف صرفت أكثر من 14 مليار سنتيم (140 مليون درهما) عبر بضع سنوات لدعم آلاف الزوايا والأضرحة بمختلف أنحاء المغرب، كما أن الوزير نفى ما نشره البعض عن إنفاق 4 مليارات، مؤكدا أن المبلغ لا يتجاوز 600 مليون درهما في إحدى الميزانيات التي قدمها أمام مجلس المستشارين.. ورغم ذلك تبقى هذه المبالغ رهيبة بالنظر إلى أولويات الوطن الآن..
وفي نونبر 2023 كشف أحمد التوفيق أن الوزارة تراقب 1650 زاوية و5703 ضريحا موزعة على التراب الوطني، وتتابع دورها في تعزيز الأمن الروحي والنسيج الديني المغربي.. وهذه أرقام مهولة ومرعبة في الوقت نفسه!! وتعكس “التوجه العقدي” الجديد للدولة من خلال وزارة الاوقاف..
بعض الملاحظين استغربوا إلى حجم الدعم الكبير والدعوات إلى استثمار الدولة في الجهل والخرافة، معتبرين أن توجيه المال العام نحو الزوايا والأضرحة لا يتماشى مع أولويات التنمية وفرص التعليم والصحة.. هذا فضلا عما يصاحب المواسم المرتبطة ببعض الأضرحة من انحرافات عقدية ومفاسد أخلاقية.. في وقت سكت فيه الكثير من العلماء عن هذا السخاء الموجه إلى ثقافة البدع المنهي عنها شرعا..
فلا خلاف بين علماء السلف والعصر الحالي، وفقهاء المالكية حول الموقف الشرعي من ذلك كله، فإن ذلك حرام ومنهي عليه بإجماع.. وهنا يطرح السؤال العَرَضي، أين العلماء والسياسيون الذين استدركوا على الدكتور أحمد الريسوني الموقف القانوني والأخلاقي من قرار العزل الذي هم الشيخ محمد بنعلي؟ لم نسمع لهم كلمة ولم نر لهم موقفا أو تحفظا على ما تنفقه وزارة الأوقاف سنويا على كل هذه المنكرات والبدع والانحرافات!!
2/ تشديد الشروط القانونية لتجديد وتأسيس الكتاتيب القرآنية:
في أبريل 2025 عمدت الوزارة على فرض نظام جديد على الكتاتيب القرآنية أدى إلى استبدال الرخصة الوزارية الدائمة بأخرى مؤقتة مدتها ثلاث سنوات قابلة للتجديد، مما يجعل ما يناهز 90% من الكتاتيب غير صالحة بناء على الشروط التعسفية والتعجيزبة المطلوبة، وأضحت عرضة للتوقف والإغلاق، مع ما يرافق ذلك من الإلقاء بآلاف العاملين بها في حضن البطالة..
هذه الإجراءات التعسفية خلفت ردود فعل رافضة لهذه القرارات، حيث لاحظ العديد من العاملين بالقطاع والمتابعين له أن المذكرة التي أرسلت إلى الكتاتيب القرآنية تهدد استمرار رسالتها التربوية، وأن الشروط المتضمنة فيها تعجيزية وستؤدي إلى إغلاق العديد منها، وهو ما تحقق بالفعل، حيث تناقص عدد الكتاتيب بشكل واضح..
وفي هذا الإطار وصف أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة رشيد بن كيران القرار ” بأنه تسييس وتلغيم، ورأى أن هذه الإجراءات ستفقد التراخيص القديمة قانونيتها بدون مبرر، في لحظة كان تكريم الكتاتيب وتحفيظ القرآن الكريم يُفترض أن يُعزز ولا يُعاكس”.
الإجراءات الجديدة التي تبنتها وزارة الأوقاف تحت قيادة أحمد التوفيق تجاه الكتاتيب القرآنية والكتاتيب المستقلة تُعدّ تحولًا جوهريًا نحو رقابة مركزية صارمة، خلفت تذمّر المواطنين والقائمين على التعليم القرآني التقليدي، ودفع بالكثيرين إلى المطالبة باستثناءات، وتسهيل هذه المسطرة حفاظًا على استدامة المنظومة القرآنية الشعبية.
وقد أدت هذه الإجراءات إلى:
– تحوّل الكتاب من حضوره الديني الشعبي إلى إخضاعه إلى تحكم إداري: حيث كان الكتّاب القرآني يشتغل بشبه استقلالية، لكن المذكرة فرضت إحكامًا إداريًا مُشددا يعكس رقابة مركزية لا تختلف عن رقابة وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية .
– إضعاف مؤسسات تعليم القرآن الشعبي: خاصة في الأحياء الشعبية والقروية الفقيرة حيث لا تتوفر غالبًا على شروط البناء أو التسجيل القانوني وفق المعايير الجديدة المفروضة.
– نمط رقابة يوازي استراتيجية الوزارة في الملفات الأخرى: مثل فرض “الخطبة الموحدة” أو تقنين خطاب الكتّاب، وهو إجراء توجيهي مركزي ومنظم.
3/ تصريحات ومواقف تناقض المنصب:
– تأييد التعامل بفوائد البنوك (ربا البنوك):
صرّح أحمد التوفيق بأن التعامل المالي بالفوائد البنكية لا يعتبر ربا محرم شرعًا بالمعنى التقليدي، وأنه لا يدخل في باب “التعبد”، بل يعتبر مسألة تفاوضية أو تعاقدية، خاصة إذا صدر القانون باسم “المصلحة العامة” .
هذا القول من منظور علماء الأمة المغربية يعد خروجًا واضحًا عن الفقه المالكي، الذي يحرّم أي فائدة كمظهر من مظاهر الربا استنادا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما أثار انتقادات قوية من فقهاء وعلماء من خارج المؤسسات الرسمية والمجالس العلمية. في المقابل، دافعت وزارة الأوقاف لاحقًا عن موقفها، معتبرة أن حديث الوزير ربما أسيء تفسيره في بعض وسائل الإعلام .
الإشكالية- هنا – أن عموم الشعب المغربي لا يميز بين منصب وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية والعالِم في العلوم الشرعية، خاصة وهو يرى وزير الأوقاف في كل رمضان من كل سنة وهو يستفتح الدروس الرمضانية أمام الملك بصفته أمير المؤمنين، وأمام كبار علماء العالم الإسلامي، وعندما يبيح الوزير لنفسه إباحة ربا البنوك فلا يوجد ما يمنع أن تصدق فئة عريضة من المغاربة هذا الهراء وتؤمن به وتعمل بمقتضاه، بما أنه جاء من جهة رسمية تشرف على الشأن الديني بالمغرب.. ولا داعي إلى الإشارة أن هذا التصريح (غير البريء كما أراه) يصب في مصلحة الأبناء الربوية التي تنهب جيوب المغاربة البسطاء..
– وصف الخطباء الذين لا يلتزمون بـ “الخطبة الموحدة” بأنهم ينتمون إلى”خوارج”
في مراكش خلال تنصيب رئيس المجلس العلمي الجهوي لجهة مراكش آسفي، انتقد الوزير الأئمة والخطباء الذين يمتنعون عن إلقاء “الخطبة الموحدة” التي توزعها الوزارة قائلاً إنهم من “الخوارج”، أي من الذين خرجوا عن إجماع النظام المرسوم والخطاب الرسمي .
أثار هذا الوصف، الذي يربط بين المخالفين لتوجيه رسمي وبين فرقة الخوارج التاريخية — التي تم تكفيرها وسبق أن ارتكبت اغتيالات وإفسادًا في الأمة — ردود فعل غاضبة من قبل الأئمة والمثقفين، معتبرين أن وسمهم بـ”الخوارج” هو ضرب من التكفير والتشهير غير المبرر .
إن وصف الخطباء الذين كان لهم موقف ضد فرض الخطبة الموحدة بالخوارج تجاوز حد القذف والسب، ليصل إلى التشكيك في العقيدة والانتماء، وهو نوع من الإرهاب المعنوي الذي يهدف إلى تخويف أئمة الجمعة وإخضاعهم لمنطق الوزارة بممارسة وصاية تتجاوز الوصاية التي تمارسها وزارة الداخلية على المقدمين والشيوخ وأعوان السلطة.. ولم يسبق في تاريخ المغرب أن وصف وزير في جميع القطاعات خطباء الجمعة بهذا الوصف السيء..
ومرة أخرى لم نجد أي تعليق على كلام أحمد التوفيق من طرف أولئك الذين وجدوا في الدكتور أحمد الريسوني مادة للانتقاد رغم خطورة وفداحة ما تلفظ به وزير الأوقاف في حق خطاء الجمعة..
– وصف المغرب بالدولة العلمانية:
في جلسة لمجلس النواب بتاريخ 1 دجنبر 2024، قال أحمد التوفيق إن المغرب بلد علماني، ردا على تعليق من وزير الداخلية الفرنسي الذي قال إن العلمانية تصدم المغاربة..
لا أدري حين صرح السيد الوزير بهذا التصريح، هل كان يعقل ويفهم ما يقول؟ وهل هو خطاب استعمله لتحسين صورة المغرب في الخارج؟ أم إنه تغيير فعلي في النظر إلى هوية الدولة؟ خاصة وأن هناك تصريح سابق لأحد الشخصيات البارزة في المغرب قال فيه بعد إعلان نتائج انتخابات 8 شتنبر أن المغرب انتقل من دولة إسلامية إلى دولة علمانية!!
إن هذا الكلام الصادر عن وزير يدبر الأوقاف والشؤون الإسلامية في بلد إسلامي بمقتضى الدستور، يرأسه ملك له صفة أمير المؤمنين ينم إما عن جهل مركب وعميق، أو سحيق على حد تعبير الدكتور الريسوني، وإما إنها رسالة مقصودة أُمِر بتلاوتها على الهواء كي تصل إلى من يعنيهم الأمر.. لأن السؤال الشكلي والمنهجي يفرض نفسه أمام هذا الموقف، ما علاقة وزير الاوقاف والشؤون الإسلامية في بلد إسلامي بكلام وزير داخلية فرنسا؟ ألم يكن من الأجدر أن يجيب هذا الأخير وزيرٌ آخر غير أحمد التوفيق؟ وهل كان من الضروري أن يعلق الوزير التوفيق على كلام وزير الداخلية الفرنسي، سواء بمبادرة منه أو بتعليمات من جهات عليا؟
– التضييق على العلماء والخطباء:
يمكنكم العودة إلى الجزء الأول مقالي تحت عنوان: التضييق على الخطباء والوعاظ في المغرب؛ واقع الوصاية الدينية وانتهاك الحريات الفردية..
https://www.facebook.com/share/p/1DnDVLRztA/?mibextid=wwXIfr
لقد مثّلت السياسات التي انتهجها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق منذ توليه المنصب، نموذجًا صارخًا لما يمكن تسميته بـ”الإدارة السلطوية للشأن الديني”، حيث تم تحويل المساجد إلى فضاءات مفرغة من خطابها الحي، وخضعت الخطب لتوحيد صارم، وتم تجميد هامش الاجتهاد والتنوع الفكري الذي ميّز الحقل الديني المغربي عبر تاريخه. كما رافق ذلك تضييق ممنهج على العلماء والخطباء، وعزل لبعض رؤساء المجالس العلمية، وإغلاق عدد من دور القرآن ومؤسسات التعليم العتيق والأصيل، في سابقة لم يشهدها المغرب في تاريخه الحديث.
وفي الوقت الذي كانت فيه البلاد بحاجة إلى تعزيز الثقة في العلماء، وتحصين المجتمع من الغلو والتطرف والانحلال، تم اللجوء إلى سياسات الإقصاء والصمت والتذويب، تحت غطاء “الإصلاح” و”الحفاظ على الأمن الروحي”، في حين كانت النتائج العملية تسير في اتجاه معاكس تمامًا، حيث اتّسعت الهوة بين المؤسسات الدينية الرسمية والواقع الاجتماعي.
إن المرحلة الراهنة تفرض مساءلة جادة لهذه الاختيارات، وفتح نقاش عمومي حول موقع وزارة الأوقاف من الدولة والمجتمع، ومراجعة أدوارها في ظل تحولات عميقة يعيشها المغرب على المستويات السياسية والاجتماعية والدينية. فالدين ليس شأنًا إداريًا يُدار بمرسوم، وإنما هو قضية مجتمعية تستوجب الانفتاح على الاجتهاد، وتحرير منابر المساجد من القيود البيروقراطية، وتكريس التعدد داخل الوحدة، لا خنق التعدد باسم التوحيد.
إن الممارسات المتراكمة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في عهد الوزير أحمد التوفيق، تثير تساؤلات جوهرية حول مدى احترام الضوابط القانونية والمؤسساتية المؤطرة لتدبير الشأن الديني، وخصوصًا في ما يتعلق بمبادئ: حرية التعبير، استقلالية العلماء، والتعددية الفكرية والمذهبية داخل المرجعية الإسلامية الوطنية.
فرغم ما يروج من خطاب حول “تأهيل الحقل الديني”، فإن الواقع يشير إلى تزايد القرارات الإدارية العقابية (التوقيف، العزل، إغلاق المؤسسات)، في غياب تام لمعايير المحاسبة والشفافية، وتجاهل صريح للحق في الدفاع والتظلم، وهو ما يشكل خرقًا لمقتضيات دولة القانون والمؤسسات.
كما أن عدداً من التصريحات الصادرة عن الوزير – بشأن إباحة الربا، أو اتهام المخالفين بأنهم خوارج، أو وصف الدولة المغربية بأنها علمانية – تفتقر إلى الحس السياسي والديني، وتُعدّ تجاوزًا لصلاحياته الإدارية، وتمسّ بروح المرجعية الإسلامية التي يحرص المغاربة على صيانتها من العبث أو التوظيف الانتقائي.
وبناءً عليه، فإننا ندعو إلى:
– فتح نقاش مؤسساتي ووطني حول دور وزارة الأوقاف وتوجهاتها الراهنة.
– مراجعة أسلوب تدبير الشأن الديني بما يضمن استقلاليته وتوازنه.
– رفع التقييد والتضييق عن الخطباء والمؤسسات التربوية الدينية التي تلتزم بالثوابت الوطنية.
– إخضاع وزارة الأوقاف للمراقبة البرلمانية الفعلية والمساءلة القانونية عند الاقتضاء.
ذلك أن تحصين الدين من التوظيف السياسي، لا يكون بتوظيفه إداريًا، بل بجعله مشتركًا وطنيًا يتجاوز الولاءات، ويخضع لقيم الحوار، والمصلحة العامة، وسيادة القانون.
وإن إصلاح الشأن الديني اليوم لم يعد ترفًا فكريًا أو مزايدة سياسية، بل ضرورة وطنية تُحتّمها تحديات اللحظة، وتفرضها مسؤولية الحفاظ على هوية الأمة، وعدالة مؤسساتها، وحكمة خطابها الديني.
فلتكن هذه الدعوة بداية لاستعادة توازن المجال الديني، وتحريره من الجمود والخضوع، وتمكينه من أداء رسالته في بناء الإنسان والمجتمع المغربي..
إرسال التعليق