
السلفية: بين التكيف الإيديولوجي والانخراط الحقوقي
رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح
عرفت الحركات السلفية الجهادية في السنوات الأخيرة تحولات لافتة في بنيتها الفكرية وسلوكها السياسي والاجتماعي، مما يشير إلى دينامية داخلية معقّدة تستحق التأمل والتحليل. فقد شهدت هذه التيارات محاولات لمراجعة بعض المفاهيم الأساسية داخل المنظومة الجهادية، كالموقف من المشاركة السياسية والاحتجاجات الشعبية. ومع أن هذه المراجعات لا تزال جزئية ومحدودة من حيث الانتشار والتأثير، إلا أنها تعكس رغبة بعض الفاعلين داخل هذه التيارات في التفاعل مع متغيرات الواقع، واستيعاب الضغوط والتحديات الجديدة التي فرضتها التحولات الكبرى في العالم العربي والإسلامي، خصوصًا منذ اندلاع موجة “الربيع العربي”.
هذا التحول يشير إلى نوع من “البراغماتية الإيديولوجية” داخل التيارات الجهادية، تمكّنت من خلالها من إعادة توجيه بوصلتها الفكرية وتكتيكاتها الحركية، بما يتلاءم مع المعطيات الجديدة. فبدلًا من الانغلاق داخل إطار المفاصلة الكلية مع الأنظمة والمجتمعات، ظهرت بوادر انفتاح جزئي على المجال العام، من خلال تكييف الخطاب الجهادي التقليدي ليواكب قضايا حقوقية واجتماعية، بل وحتى سياسية. ويمكن تفسير هذا التحول من خلال ثلاثة مستويات:
- المستوى الإيديولوجي: بدأت بعض المكونات الجهادية تتبنى لغة جديدة في التعبير عن مواقفها، توظف فيها مفردات مثل “العدالة الاجتماعية”، و”الظلم السياسي”، و”الاستبداد”، وهي مفاهيم كانت سابقًا تُربط حصريًا بخطابات الحركات الإسلامية الإصلاحية أو الحزبية. هذه اللغة تشير إلى محاولة لإعادة تقديم الذات الجهادية في قالب أكثر قبولًا لدى الرأي العام، لا سيما فئات الشباب المهمّش أو الساخط على الأنظمة.
- المستوى الحركي: لوحظ انخراط فاعلين جهاديين، بشكل غير مسبوق، في فضاءات الحراك الشعبي، سواء من خلال المشاركة الفردية أو الجماعية في المظاهرات والمسيرات، أو من خلال بناء تحالفات ظرفية مع فاعلين مدنيين أو حقوقيين. هذا التوجه يعبّر عن رغبة في كسر العزلة التي طالما ميزت هذه التيارات، ومحاولة اختراق المجال العمومي لاكتساب شرعية جديدة غير مستندة فقط إلى الخطاب العقائدي، بل أيضًا إلى الممارسة الميدانية والمطالبة بالحقوق.
- المستوى الاستراتيجي: إن هذا الانفتاح لا يمكن عزله عن التحولات الجيوسياسية التي شهدها العالم الإسلامي بعد 2011، حيث أدت الثورات والصراعات المسلحة وتراجع فاعلية النظم السياسية التقليدية إلى فراغات أمنية ومؤسساتية، استغلتها بعض الحركات الجهادية لتوسيع مجال حركتها، ليس فقط من خلال العنف المسلح، بل أيضًا عبر النفاذ إلى المجتمعات المحلية والخطاب العام.
.
كما شهد الحقل الحقوقي والمدني في المغرب خلال السنوات الأخيرة تحوّلاً لافتاً تمثل في انخراط بعض المنتمين إلى التيار السلفي الجهادي، خاصة بعد موجة الاعتقالات التي أعقبت أحداث 16 ماي 2003، في الفعل المدني والحقوقي، إما من خلال تأسيس جمعيات ذات طابع اجتماعي أو ثقافي، أو من خلال المشاركة النشطة في الندوات والمنتديات التي تُعنى بقضايا حقوق الإنسان والحريات العامة. هذا التحول يُعدّ تطوراً نوعياً وغير مسبوق في مسار التيار السلفي الجهادي، الذي ظلّ تاريخياً يُعرَف برفضه القاطع للمؤسسات الديمقراطية والآليات المدنية، معتبراً إياها جزءاً من “الجاهلية الحديثة” أو “المنظومة الطاغوتية”.
إن هذا الانخراط لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق السياسي والاجتماعي المغربي، الذي شهد بعد حراك 20 فبراير 2011 انفراجاً نسبياً في ملف المعتقلين السلفيين، حيث تم الإفراج عن عدد منهم في إطار عفو ملكي أو مراجعات فكرية. وقد وفّر هذا الظرف بيئة جديدة دفعت بعض رموز السلفية الجهادية إلى إعادة النظر في وسائل التفاعل مع الدولة والمجتمع، دون أن يعني ذلك بالضرورة تخليهم عن قناعاتهم العقدية الجوهرية. بمعنى آخر، ما نشهده هو نوع من “البراغماتية الجهادية” أو ما يمكن تسميته بـ”التحول الأدواتي” الذي يسمح باستعمال الأدوات الحقوقية والمدنية ـ بما فيها خطاب المظلومية، والدعوة إلى المحاكمة العادلة، وحرية التعبير، وحتى الديمقراطية الإجرائية ـ كوسائل لتحقيق مكاسب مرحلية، كرفع التهميش، والترويج لبراءة الذات، والدفاع عن “المشروع الإسلامي”، دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى تبنٍّ حقيقي للقيم الليبرالية أو القطيعة مع الجذر العنيف للفكر الجهادي.
من الناحية النظرية، يمكن تفسير هذا التحول من خلال ما يسميه البعض بـ”العقلانية الاستراتيجية، حيث يعمد الفاعل الجهادي إلى تعديل سلوكياته العامة بما يتلاءم مع البيئة المحيطة من أجل البقاء أو كسب شرعية جديدة، دون أن يتخلى عن أهدافه الكبرى. فالسلفيون الذين كانوا يرفضون، بل يكفّرون، العمل الحقوقي والديمقراطي، باتوا اليوم يستندون إلى هذه المنظومة نفسها للطعن في شرعية الدولة أو لكسب دعم شعبي، متجاوزين بذلك ثنائية “الولاء والبراء” الصارمة التي كانت تطبع خطابهم سابقاً.
أما من حيث الأثر، فإن هذا الانفتاح قد أدى إلى تحولات داخلية في بنية الخطاب السلفي الجهادي بالمغرب، حيث ظهرت تمايزات بين تيارات أكثر راديكالية وأخرى تميل إلى نوع من “السلمية السياسية”، خصوصاً في ظل محاولات بعض رموزه الاندماج في المشهد العمومي كفاعلين مدنيين أو حتى فاعلين سياسيين في بعض الحالات. إلا أن هذا المسار يظل محفوفاً بالشكوك، نظراً لتضارب الخطاب بين ما يُعلَن في المجال العام وما يُروّج أحياناً في الدوائر المغلقة أو على منصات التواصل.
إن المراجعات الفكرية الجزئية التي باشرتها بعض التيارات الجهادية تمثل محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين الجهاد والمجتمع، وبين العقيدة والعمل السياسي. وهي مراجعات محفوفة بإشكالات عميقة، أهمها مدى اتساقها الداخلي، وحدود قبولها من قبل الجسم الجهادي ككل، فضلًا عن موقف باقي الفاعلين الإسلاميين منها. كما تثير هذه المراجعات تساؤلات حول مستقبل الحركات الجهادية: هل نحن أمام بداية “تمدين” للفكر الجهادي؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تكتيكًا ظرفيًا سرعان ما يُستبدل بخطاب أكثر تصلبًا حين تتغير الشروط السياسية؟
.
إرسال التعليق