آخر الأخبار

“الكساد الكبير الثاني” حين نسي العالم دروس المائة عام فإنه يسير نحو المجهول

“الكساد الكبير الثاني” حين نسي العالم دروس المائة عام فإنه يسير نحو المجهول

رصدالمغرب / عبدالكبير بلفساحي


في الوقت الذي كان فيه العالم يظن أن دروس التاريخ قد استوعبت، وأن النظام الاقتصادي الدولي الذي بني بعد الحرب العالمية الثانية قادر على منع تكرار الكوارث القديمة، تأتي الوقائع اليوم لتقول عكس ذلك.

ففي واشنطن، العاصمة التي لطالما قادت النظام المالي العالمي، يدخل الإغلاق الحكومي يومه السادس والثلاثين، في أطول شلل إداري واقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة الحديثة.

ومرة أخرى، كما حدث قبل مئة عام بالتمام، تتلاقى السياسات الخاطئة والتصلب السياسي والانعزالية الاقتصادية، لتشكل عاصفة كاملة قد تطلق شرارة ما يمكن أن يسمّى بـ “الكساد الكبير الثاني”.

قبل قرن تقريبا، في عام 1929، بدأت الشرارة من البورصة الأمريكية حين انفجرت فقاعة المضاربات، لكن الأسباب الأعمق كانت سياسية واقتصادية معاً، فكانت هناك سياسات حمائية متشددة وقوانين ضرائب متخبطة وانغلاق تجاري تحت شعار “حماية الصناعات الوطنية”. تلك السياسات نفسها ساهمت في انهيار الطلب العالمي، وتفاقم البطالة، وانتقال العدوى إلى أوروبا وآسيا وأفريقيا، حيث بعد سنوات قليلة، أصبح الكساد الكبير عنوانا لعقد كامل من الألم الاقتصادي والاضطراب السياسي الذي مهد في النهاية لاندلاع الحرب العالمية الثانية.

واليوم، وبعد مائة عام، تتكرر الملامح نفسها وإن تغيرت الأدوات والأسماء، غير أن الإغلاق الحكومي الأمريكي ليس مجرد حادثة عابرة، بل هو تعبير عن انقسام سياسي عميق، وعن أزمة ثقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع، حيث بحسب وكالة بلومبيرغ، يعمل أكثر من ستمائة ألف موظف فدرالي بلا أجر، في حين أُجبر ستمائة وخمسون ألفا آخرون على البقاء في منازلهم.

وحتى الإحصاءات الرسمية، التي تعد نبض الاقتصاد الأمريكي توقفت، فلا وزارة عمل تجمع بيانات التضخم والبطالة، ولا مكاتب الإحصاء تصدر أرقام النمو، يعني بكلمات أخرى، تسير أقوى دولة في العالم في عتمة رقمية كاملة، بلا بيانات ولا مؤشرات ولا بوصلة اقتصادية، لأن هناك شلل في الداخل وتداعيات في الخارج، حيث تتسلل آثار الأزمة إلى كل زاوية في الحياة الأمريكية، في المطارات يتغيب المراقبون الجويون بسبب الإجازات القسرية، فتتأخر أكثر من 7300 رحلة وتلغى نحو 1200 رحلة في يوم واحد، وفي مكاتب التعليم، تم تسريح 85% من موظفي إدارة المعونات الطلابية، وهو ما يهدد مستقبل آلاف الطلبات الجامعية، وفي مصلحة الضرائب، تتراكم الملفات دون معالجة، فيما توقفت تراخيص شركات الأدوية والمشروبات، وأُغلقت لوحة بيانات الإنفلونزا وكوفيد التابعة لمراكز مكافحة الأمراض — في وقت يبدأ فيه موسم الأمراض التنفسية، وكل هذا يحدث في بلد يفترض أنه الأكثر تقدما إداريا وتقنيا في العالم.

لكن الأخطر أن الأزمة الداخلية تتزامن مع تحولات جذرية في السياسة الاقتصادية الأمريكية الخارجية، حيث العقوبات والمقاطعات الاقتصادية التي فرضت على عدد من الدول لم تعد مجرد أدوات ضغط سياسي، بل تحولت إلى منهج دائم في التعامل مع العالم.

غير أن هذه الإجراءات، وفق القواعد القانونية لمنظمة التجارة العالمية، تتعارض مع اتفاقية التجارة المتعددة الأطراف التي تمنع أي دولة من فرض عقوبات تجارية أحادية الجانب دون مسوغ قانوني أو قرار دولي، يعني بكلمات أخرى، العالم يعيش اليوم في نظام اقتصادي عالمي منفلت من قواعده، تحكمه المصالح الوطنية الضيقة أكثر مما تحكمه القوانين المشتركة، لتحول وجهته من الانعزال إلى الانهيار.

وعندما تبدأ الدول الكبرى في تبرير سياساتها الاقتصادية بالعناوين الوطنية مثل “حماية مصالح المواطن” أو “استعادة الوظائف”، فإنها في الحقيقة تضع أسس الانعزال الاقتصادي الذي يقود حتما إلى الانكماش العالمي، لأن كل دولة تغلق أسواقها ستجد أسواق الآخرين تغلق في وجهها، وكل دولة تفرض قيودا ستواجه قيودا مضادة، وهكذا تتشكل حلقة مفرغة من الحمائية ورد الحمائية، كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، حين أدت سياسات الرسوم الجمركية الأمريكية إلى انهيار التجارة العالمية بنسبة تجاوزت 60% خلال سنوات قليلة، والآن العالم على حافة الكساد، فما الذي سيحدث إن استمر هذا المسار؟

سنرى موجات من التضخم المصحوب بالركود، وهو أخطر أنواع الأزمات الاقتصادية، إذ تتراجع القدرة الشرائية في الوقت الذي ترتفع فيه الأسعار، وسترتفع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، وسيتقلص الطلب على السلع والخدمات، وستعجز الشركات الصغيرة عن الصمود، وسنواجه كسادا في البضائع والأسواق، حيث تتكدس المنتجات بلا مشترين، ويختنق الاقتصاد العالمي في عنق زجاجة صنعها بنفسه.

التاريخ لا يعيد نفسه حرفيا، لكنه يكرر دروسه لمن لم يتعلم، فقبل مائة عام، أدى العناد السياسي والانعزال الاقتصادي إلى كساد عالمي هز أسس النظام الرأسمالي.، حيث اليوم إذا استمرت واشنطن في تجاهل إشارات الخطر، فإن العالم بأسره سيدفع الثمن، لأن الاقتصاد الأمريكي لا يعيش في فراغ، بل إنه العمود الفقري للنظام المالي العالمي، وأي خلل فيه ينعكس فورا على أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا.

إن ما يحدث اليوم ليس مجرد أزمة حكومية داخلية، بل تحول في مسار التاريخ الاقتصادي الحديث، فالإغلاق الحكومي الأمريكي، والعقوبات المتصاعدة، والحمائية المتزايدة، كلها مؤشرات على نظام دولي يفقد توازنه وقواعده، وإذا لم تدرك واشنطن ومعها القوى الكبرى أن العالم مترابط المصير، وأن حماية المصالح الوطنية لا تعني تدمير النظام العالمي، فإننا مقبلون على عقد جديد من الكساد، قد يعرف في كتب التاريخ لاحقاً باسم “الكساد الكبير الثاني – حين نسي العالم دروس المئة عام”.

إرسال التعليق