تطور التجربة الجهادية ومركزية التأطير المصري في تكوين الخزانة الفكرية الجهادية

آخر الأخبار

تطور التجربة الجهادية ومركزية التأطير المصري في تكوين الخزانة الفكرية الجهادية

رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح 

شهدت التجربة الجهادية منذ سبعينيات القرن الماضي تطورًا نوعيًا ملحوظًا، سواء من حيث بنيتها التنظيمية أو من حيث إنتاجها المعرفي والأيديولوجي. ويمكن القول إن هذه التجربة، رغم اتساعها الجغرافي وتعدد مرجعياتها الفكرية، تميزت بقدر من الانفلات من الدراسة الأكاديمية الدقيقة، بالنظر إلى تعقيدها من جهة، وغزارة إنتاجها من جهة أخرى. فقد راكمت الحركات الجهادية، على اختلاف مرجعياتها ومجالات نشاطها، خزانًا معرفيًا واسعًا ومتنوعًا شمل الكتب، والنشرات، والأشرطة السمعية والبصرية، والمجلات، والبيانات، شكل ما يمكن تسميته بـ”الخزانة الجهادية”.

ومن بين مختلف الحركات الجهادية، برزت الجماعة الإسلامية المصرية وجماعة الجهاد الإسلامي بدور محوري في تشكيل الأساس التأطيري لهذه الخزانة. فقد أثّرت كتابات وأطروحات رموز هاتين الجماعتين في الأجيال الأولى من الجهاديين خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث طغى على هذه الأدبيات الطابع الإيماني التعبوي، القائم على مفاهيم الاستعلاء الإيماني، والتهيئة النفسية، والتكليف الشرعي بالجهاد، مما خلق أرضية فكرية مشتركة لدى مختلف الحركات التي انبثقت لاحقًا.

ومع اندلاع الجهاد الأفغاني ضد السوفييت، برزت السلطة الفكرية والتنظيمية للتيار المصري بشكل لافت، من خلال مساهمته في التأطير، والتنظير، وإعداد المقاتلين عبر المجلات الفكرية والدروس التعبوية ومناهج التكوين الشرعي والعسكري. وقد أسهمت خبرة الجماعات المصرية، المتراكمة في مواجهتها اليومية مع الدولة المصرية – سواء مع الشرطة أو الجيش – في تعزيز موقعها الريادي داخل الحركات الجهادية العابرة للحدود.

ومع امتداد التجربة الجهادية إلى مناطق توتر جديدة، خاصة بعد أفغانستان، عرفت الخزانة الجهادية توسعًا كمّيا ونوعيا، حيث حمل الجهاديون العرب معهم رصيدًا ضخمًا من التجارب، ليس فقط على المستوى القتالي، وإنما كذلك على المستويات الإعلامية والتنظيمية والفكرية. ومن أبرز ما ميز هذه المرحلة، بروز تجربة إعلامية فريدة تجلت في مؤسسات دعوية وتحريضية مثل سلسلة “وحرض المؤمنين”، التي شكّلت جزءًا من معمار إعلامي جديد يسعى إلى التعبئة الجهادية العابرة للحدود، اعتمادًا على تقنيات التواصل الحديثة وأساليب الدعاية المؤثرة.

إن دراسة هذه التطورات تبرز الحاجة الملحة إلى مقاربة تحليلية تجمع بين البعد التاريخي والبعد السوسيولوجي والفكري، لفهم ديناميات التكوين والتطور داخل الحركات الجهادية، ودور الفاعلين المحليين – خصوصًا المصريين – في إنتاج وتأطير المشروع الجهادي العابر للأقاليم.

التحولات الإعلامية الجهادية بين 2001 و2004: من وحدة الخطاب إلى الانقسام الأيديولوجي

مع مطلع الألفية الثالثة، شهد الفضاء الرقمي بروزاً لافتاً للخطاب الجهادي، لا سيما في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001، التي أطلقت دينامية جديدة في علاقة التنظيمات الجهادية بالإنترنت، باعتباره مجالاً بديلاً للحرب النفسية والتعبئة الأيديولوجية والدعاية التعبوية. بين عامي 2001 و2003، نشأت عدة مواقع ومنتديات جهادية شكلت ما يمكن وصفه بـ”الإعلام الجهادي الكلاسيكي”، ومن أبرز هذه المنصات منتدى “الأنصار” وغرفة “الأنصار” على برنامج البالتولك، التي ارتبطت بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب. كانت هذه الغرفة والموقع التابع لها يشكلان محورًا تواصليًا وتعبويًا رئيسيًا، ضمّ مختلف أطياف الجهاديين من مناطق متعددة، وكانتا منصتين مركزيتين لإعادة بث خطابات القيادات، وتحديث أخبار العمليات، والرد على الخصوم سواء كانوا حكوميين أو من داخل التيار السلفي الجهادي ذاته.

من الناحية الفكرية، تميزت هذه المنابر بقدر من الانضباط الأيديولوجي، حيث سعت إلى ترسيخ أدبيات القاعدة في نسختها التقليدية، والتي مزجت بين مفاهيم الجهاد العالمي، والنزعة القطبية في معاداة الأنظمة، مع محاولة الحفاظ على مرجعية علمية تقليدية تُبقي بعض الجسور قائمة مع علماء “المنهج” التقليدي، وإن بشكل محدود. ولعل أحد أبرز المشاريع الفكرية التي أغنت هذا الاتجاه هو “منبر التوحيد والجهاد” التابع لأبي محمد المقدسي، والذي وفر خزانة ضخمة من المؤلفات الجهادية تجاوزت 4455 مادة من كتب ومقالات ودراسات فكرية وشرعية، كانت تُروّج على أنها “الحقيبة الجهادية الكاملة”، وجرى اعتمادها من قبل العديد من الجماعات، خاصة القاعدة وتنظيمات جهادية مصرية كانت تمر بمرحلة إعادة التشكل.

غير أن هذا الوضع سرعان ما شهد تغيراً بنيوياً سنة 2004، حيث بدأ التمايز يظهر بين الإعلام القاعدي التقليدي، ممثلاً في منتديات الأنصار ومنابر المقدسي، وبين إعلام التيار الجديد الذي تمثّل في تنظيم “التوحيد والجهاد” بقيادة أبي مصعب الزرقاوي في العراق. ظهر هذا التمايز في مضامين الخطاب، وأولويات المعالجة، ومستوى الغلو في التكفير، وخاصة في موقفه من العلماء وقضية العذر بالجهل. ففي حين حافظ إعلام القاعدة – لا سيما إعلام فرعها في جزيرة العرب – على نَفَس جدلي داخلي يسعى لاحتواء الغلو أو على الأقل تقنينه، فإن الخطاب الإعلامي للزرقاوي وتياره كان يتجه نحو مزيد من الراديكالية والصدام مع كل مخالف، بما في ذلك التيارات السلفية الجهادية الأخرى.

هذا الانقسام ترجم نفسه ميدانياً في الفضاء الافتراضي، حيث لم يعد الجهاديون يجتمعون في غرفة واحدة كما كان الحال في غرفة “الأنصار”، بل ظهرت غرف جديدة متأثرة بخط الزرقاوي، تتبنى خطابًا أكثر غلوًا وصدامية، وتعادي حتى إعلام القاعدة التقليدي، ما دفع بعض الرموز الإعلامية في غرفة “الأنصار” إلى اتخاذ موقف نقدي صارم تجاه هذه التيارات. ويُذكر أن بعض قيادات قاعدة جزيرة العرب، في الفترة التي سبقت مقتل عبد العزيز المقرن، كانوا يتدخلون مباشرة في غرفة “الأنصار” لردّ شبهات هذا التيار، والتأكيد على خط القاعدة الأصلي.

إلا أن اغتيال المقرن في يونيو 2004 مثل ضربة قاصمة لهذا الفرع القاعدي، وأدى إلى تراجع كبير في حضوره الميداني والإعلامي على حد سواء، ما فسح المجال لتصاعد إعلام “التوحيد والجهاد” الذي حقق طفرة نوعية، خاصة في العراق. فقد سيطر الزرقاوي على أغلب المنابر الإعلامية الرقمية، مستفيدًا من ضعف المركز القاعدي القديم، ومن الدعم الجماهيري والإعلامي المتزايد لجماعته، فضلًا عن تبنيه لأساليب أكثر درامية وتأثيرًا، مثل تسجيلات الذبح المصورة، والخطاب الطائفي العنيف، الذي وجد له صدى واسعًا في أوساط معينة.

هذا التحول يعكس في جوهره انقسامًا أعمق في بنية التيار السلفي الجهادي، بين مدرسة تقليدية تسعى إلى تأصيل الجهاد وتبريره شرعيًا ضمن منطق فقه الضرورات، ومدرسة جديدة أكثر تطرفًا تُغلب الجانب الانفعالي والرمزي، وتسعى إلى الهيمنة على المشهد الإعلامي من خلال أدوات الصدمة والبروباغندا المرئية.

الإعلام الجهادي: من سلطة النص إلى سلطة الصورة

يمثل الإعلام في الحركات الجهادية المعاصرة ركيزة استراتيجية أساسية، يمكن وصفه بـ”الذراع الأمامية الخفية” في إدارة المعركة، سواء على مستوى التعبئة الداخلية أو الحرب النفسية ضد الخصوم. لقد أدركت التنظيمات الجهادية، مبكرًا، أن السيطرة على السردية والخطاب لا تقل أهمية عن السيطرة على الأرض، بل إن الحرب الإعلامية في بعض المراحل كانت تُعدّ أكثر فاعلية من الحرب العسكرية، خاصة في ما يتعلق بتجنيد الأتباع، وتصدير الأيديولوجيا، والتأثير في الرأي العام المحلي والدولي.

أولًا: الإعلام في تنظيم القاعدة – سلطة النص والتأصيل الشرعي

اعتمد إعلام تنظيم القاعدة، منذ نشأته، على نموذج “الإعلام الدعوي-الفقهي”، حيث كانت المادة المكتوبة (البيانات، المقالات، الكتب، الفتاوى) هي الوسيط الأساسي، مستندًا إلى “سلطة النص” في إقناع المتلقين. فقد كانت الفتاوى التي تصدر عن قيادات التنظيم – مثل أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، وأبي قتادة، وأبي محمد المقدسي – تشكل النواة المحورية في عملية التجنيد والتعبئة، حيث يُقدَّم الجهاد على أنه فريضة مغيبة، ويُؤطر دينيًا وشرعيًا ضمن منطق الرد على “العدوان الصليبي”.

غالبية هذا الإعلام كان يُبث عبر مواقع ومنتديات مثل “شبكة السحاب”، و”الأنصار”، و”الملاحم”، و”منبر التوحيد والجهاد”، وكان يعتمد على التحريض المباشر، وإعادة إنتاج التراث الجهادي، ومخاطبة النخبة المتدينة أو المتأدلجة فكريًا. ولم يكن للإخراج البصري دور محوري، بل كان الصوت والنص هما الوسيطين الأساسيين.

ثانيًا: إعلام داعش – سلطة الصورة والبروباغندا البصرية

على النقيض من ذلك، مثل إعلام تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) طفرة نوعية في المجال الجهادي، حيث انتقل من “سلطة النص” إلى “سلطة الصورة”، مُستفيدًا من تقنيات السينما الحديثة، والإخراج الدرامي، واستراتيجيات الاتصال الرقمي. مع صعود داعش في 2014، أضحت الصورة والفيديو هي الوسيط الأساسي، وتم توظيفها بأسلوب احترافي يتجاوز البعد الوثائقي إلى البعد الترويجي والتعبوي.

أطلقت داعش عدة مؤسسات إعلامية مركزية مثل:

  • مؤسسة الفرقان: وهي الجهة المسؤولة عن نشر خطابات الخليفة (مثل أبو بكر البغدادي) والبيانات الرسمية.
  • مؤسسة الحياة (Al-Hayat Media Center): وهي الذراع الموجه للجمهور الغربي، كانت تنتج مواد بعدة لغات (الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية…)، أبرزها مجلة دابق ورومية.
  • مؤسسة أعماق: المتخصصة في الأخبار العاجلة والتقارير الحربية القصيرة بأسلوب سريع ومباشر.
  • مؤسسة الوثبة، الأجناد، وغيرها: وهي مختصة في الإنتاج الفني والموسيقي.

تميزت المواد الإعلامية لداعش باستخدام تقنيات إخراجية عالية، مثل التصوير بزاوية 360 درجة، واستخدام الطائرات المسيرة، والمونتاج السينمائي، والموسيقى التصويرية المتقنة، والتأثيرات البصرية، لتقديم مشاهد القتال أو الإعدامات بأسلوب دعائي فائق التأثير. على سبيل المثال:

  • فيلم “لهيب الحرب” (Flames of War): من إنتاج مؤسسة الحياة، يُعد من أشهر إنتاجات داعش، استخدم لغة هوليودية، وتم تصويره بمعدات احترافية، ويُظهر المعارك وكأنها مشاهد من أفلام الأكشن الغربية.
  • مشهد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة (2015): صُوّر بأسلوب سينمائي متقن، مع استخدام الحركة البطيئة، وتعدد الزوايا، والموسيقى المشحونة، بهدف مضاعفة الأثر النفسي لدى العدو وتضخيم صورة التنظيم في أعين أنصاره.
  • المجلات الإلكترونية مثل دابق ورومية: استخدمت تصاميم غربية جذابة، تُحاكي مجلات مثل Time أو Newsweek، ما جعلها أدوات فعالة في استقطاب المجندين من أوروبا وأمريكا.

وقد أكدت دراسات أمريكية مثل تقرير Brookings Institution ودراسة Counter Extremism Project أن الإعلام الداعشي كان وراء استقطاب الآلاف من المقاتلين الأجانب، خصوصًا من أوروبا، حيث كان الفيديو الدعائي يُشبع نزعة الهوية والانتماء، ويقدم “يوتوبيا جهادية” متخيلة تقوم على النصر، والعزة، والبطولة، مما يفوق تأثير النصوص الفقهية الجافة التي كانت سائدة في إعلام القاعدة.

ثالثًا: استجابة الغرب وأهمية “العدو الإعلامي”

بلغ من خطورة الإعلام الجهادي أن الولايات المتحدة الأميركية رصدت مبالغ مالية ضخمة مقابل معلومات تؤدي إلى اعتقال أو قتل قيادات إعلامية بارزة في التنظيمات الجهادية، مثل آدم غدن (المعروف بـ”عزام الأميركي”)، أو أبو محمد الفرقان (مسؤول الإعلام المركزي لداعش). وأصبحت الحرب ضد التنظيمات الجهادية تشمل “غرف حرب إلكترونية” متخصصة في متابعة الإعلام الرقمي وتفكيك محتواه، إلى جانب الحملات المضادة على شبكات التواصل.

خلاصة تحليلية:

يمثل الانتقال من “إعلام الفقه والنصوص” إلى “إعلام الصورة والدراما” أحد أهم التحولات في تاريخ الإعلام الجهادي. ففي حين كانت القاعدة تخاطب العقول والنصوص، فإن داعش خاطبت الغرائز والصور. ولئن كان خطاب القاعدة نخبويًا في جوهره، فإن خطاب داعش شعبوي، صُوّر للجماهير العريضة، خصوصًا الشباب المحبط الباحث عن هوية وانتماء.

 

إرسال التعليق