“جبر الضرر للمعتقلين السياسيين في المغرب: بين الالتزام الحقوقي والواجب السياسي

آخر الأخبار

“جبر الضرر للمعتقلين السياسيين في المغرب: بين الالتزام الحقوقي والواجب السياسي

رصد المغرب/الحيداوي عبد الفتاح 

. السياق العام لحقوق الإنسان في المغرب: من سنوات الرصاص إلى تجربة الإنصاف والمصالحة

شهد المغرب تحولات بارزة في مجال حقوق الإنسان، مرت بمراحل متعددة، أبرزها فترة ما يُعرف بـ”سنوات الرصاص”، وهي المرحلة التي امتدت تقريبًا من ستينيات القرن الماضي إلى بداية تسعينياته، وتميزت بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، شملت الاعتقال التعسفي، والاختفاء القسري، والتعذيب، والمحاكمات غير العادلة، واستهداف المعارضين السياسيين والنقابيين، في سياق توتر سياسي داخلي وإقليمي، وهيمنة السلطوية على تدبير الشأن العام.

وقد شكلت وفاة الملك الحسن الثاني سنة 1999 واعتلاء الملك محمد السادس العرش، نقطة تحول في الخطاب السياسي الرسمي تجاه قضايا الحقوق والحريات، حيث برز توجه جديد يروم طي صفحة الماضي والانتقال نحو مصالحة وطنية شاملة. وفي هذا السياق، تم إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004 كآلية انتقالية لتسوية ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي وقعت بين 1956 و1999، في خطوة غير مسبوقة في العالم العربي، عكست إرادة سياسية لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.

وقد اضطلعت الهيئة بمهام متعددة، أبرزها: كشف حقيقة ما جرى خلال سنوات الانتهاكات، وجبر ضرر الضحايا مادياً ومعنوياً، وتقديم توصيات لضمان عدم التكرار، بما في ذلك إصلاح منظومة العدالة والأمن، وتعزيز آليات المراقبة والمساءلة، بالإضافة إلى تعزيز الثقافة الحقوقية في المجتمع. وأصدرت الهيئة تقريرها الختامي سنة 2006، متضمناً تشخيصاً دقيقاً للانتهاكات، وتوصيات هيكلية، ساهمت في توسيع هامش الحريات، وتعزيز مكانة المؤسسات الوطنية المعنية بحقوق الإنسان، مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان.

ورغم أهمية هذه التجربة ومساهمتها في إعادة الاعتبار للضحايا وتحقيق بعض مظاهر العدالة الانتقالية، فإن التقييمات الحقوقية تشير إلى وجود تحديات مستمرة في تفعيل توصيات الهيئة، خاصة ما يتعلق بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وتكريس استقلال القضاء، وضمان حرية التعبير والحق في التنظيم والتظاهر، في ظل بعض التراجعات التي سجلتها منظمات حقوقية وطنية ودولية خلال السنوات الأخيرة.

ظاهرة الاعتقال السياسي في المغرب بعد أحداث 16 ماي 2003

تُعدّ أحداث 16 ماي 2003 بالدار البيضاء، والتي شهدت سلسلة من التفجيرات الدامية، نقطة تحول مفصلية في تاريخ المغرب الحديث، خاصة في تعامله مع قضايا الإرهاب والأمن الداخلي. وقد تبع هذه الأحداث حملة واسعة من الاعتقالات، وُجّهت فيها تهم لعدد كبير من الشباب، تحت ذريعة محاربة الإرهاب، الأمر الذي أثار جدلاً واسعًا حول مدى احترام الدولة لحقوق الإنسان، ومدى التزامها بالمعايير القانونية في الإجراءات المتخذة.:

تمثل أحداث 16 ماي نموذجًا لكيفية توظيف السياق الأمني الاستثنائي في تكريس نهج سلطوي في التعاطي مع المعارضة أو الأصوات غير المرغوب فيها. ففي ظل غياب تقرير رسمي شفاف يوضح ملابسات هذه التفجيرات ومن يقف وراءها، ظل الغموض يلف الرواية الرسمية، مما يفتح المجال لتأويلات متعددة تتراوح بين التقصير الأمني أو استغلال الحدث لشرعنة توجهات أمنية استباقية.

ورغم أن الدولة كانت تتحرك ضمن ما تسميه بـ”مقاربة أمنية استباقية”، إلا أن الممارسات الميدانية أظهرت خروجًا على الضوابط القانونية، تجسدت في:

  • الاعتقالات الجماعية، دون وجود أدلة دامغة.
  • تعذيب المعتقلين في مخافر الشرطة، حسب تقارير منظمات حقوقية دولية مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”.
  • محاكمات شابها غياب شروط المحاكمة العادلة، مثل انتزاع الاعترافات تحت الإكراه وغياب الدفاع الكافي.

هذه الممارسات تحاكي، إلى حدّ بعيد، الانتهاكات التي حدثت خلال ما يُعرف بـ”سنوات الرصاص”، مما يشير إلى استمرار بنية سلطوية في أجهزة الدولة، رغم الخطابات الرسمية التي تتحدث عن الانتقال الديمقراطي والعدالة الانتقالية.

تُظهر ردود فعل الدولة المغربية بعد 16 ماي توجسًا واضحًا من أي نقد داخلي أو خارجي يُوجه لطريقة تدبيرها للملف الأمني. فبدل العمل على تحقيقات شفافة وتحريك المتابعات القضائية بناء على معطيات واضحة، فضّلت الدولة التستر خلف خطاب السيادة الأمنية، ما أعاد طرح إشكالية التوازن بين الأمن والحرية، وبين حماية الدولة وحقوق المواطن.

أدت هذه الاعتقالات إلى تداعيات اجتماعية خطيرة، منها:

  • تنامي مشاعر الحقد والاغتراب لدى بعض الفئات المهمشة، والتي شعرت بالاستهداف بسبب خلفياتها الاجتماعية أو الدينية.
  • تفكك النسيج المجتمعي نتيجة التوتر بين الدولة والمجتمع المدني، وغياب الثقة في المؤسسات العدلية.
  • تقييد الحريات العامة، خصوصًا في مجالات التعبير، والتنظيم، والعمل الحقوقي.

إن استحضار المقارنة مع “سنوات الرصاص” ليس من قبيل التهويل، بل لكون بعض الممارسات الأمنية بعد 16 ماي تُظهر أن النظام السياسي المغربي لم يقطع فعليًا مع ماضي الانتهاكات، بل أعاد إنتاجها في سياق جديد تحت غطاء “محاربة الإرهاب”، مع تغيّر في الخطاب دون تغيير جوهري في الآليات.

إن اعتقال المئات بعد تفجيرات 16 ماي دون تقرير أمني شفاف أو مسار قضائي عادل، يعكس خللاً بنيويًا في تعامل الدولة مع الأزمات، واستمرارًا للمنطق السلطوي في تدبير الملفات الحساسة. ويستدعي هذا الواقع تعزيز دور المجتمع المدني، وتفعيل آليات الرقابة القضائية والحقوقية، لضمان ألا تتحول الحوادث الاستثنائية إلى مبررات لتقييد الحريات بشكل دائم.

ضرورة إحياء النقاش حول جبر الضرر المادي والمعنوي: بين الاستحقاق الحقوقي والتحدي السياسي

يُعد موضوع جبر الضرر جزءًا جوهريًا من منظومة العدالة الانتقالية، التي اعتمدها المغرب في إطار هيئة الإنصاف والمصالحة، والتي مثلت تجربة فريدة في العالم العربي من حيث سعيها إلى معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الماضي، وخصوصًا خلال ما يُعرف بـ”سنوات الرصاص”. وقد أقر المغرب ضمن هذه المقاربة بجملة من الانتهاكات، ومنح تعويضات مادية ومعنوية لضحايا الاختفاء القسري والتعذيب، مع توصيات تروم ضمان عدم التكرار وبناء دولة الحق والقانون.

غير أن المستجدات التي عرفها المغرب بعد أحداث 16 ماي 2003، وعودة ممارسة التعذيب في عدد من مراكز الاعتقال، وخصوصًا ضد المعتقلين الإسلاميين، أعادت إلى الواجهة سؤال صدقية شعارات القطع مع الماضي، ومدى التزام الدولة المغربية بتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة. وقد كتب إدريس بنزكري، الرئيس الراحل للهيئة، في خاتمة تقرير الهيئة، تحذيرًا واضحًا بأن تكرار ممارسات الماضي من تعذيب واعتقال تعسفي يستوجب مصالحة جديدة، في إقرار ضمني بأن العدالة الانتقالية ليست محطة منجزة بقدر ما هي مسار مستمر يستلزم مراجعات دائمة.

إن واقع ما بعد 16 ماي يُبرز بوضوح أن جزءًا من توصيات الهيئة لم يُفعل بالشكل الكافي، لا على مستوى إصلاح المؤسسات الأمنية، ولا على مستوى ضمانات المحاكمة العادلة ومنع التعذيب. وهنا تظهر ضرورة إعادة إحياء النقاش حول جبر الضرر، ليس فقط كتعويض مادي للأفراد المتضررين، بل كمطلب حقوقي شامل يستدعي مقاربة متعددة الأبعاد: قانونية، اجتماعية، نفسية، وسياسية.

أولاً: البعد القانوني
ينبغي الدفع نحو توسيع نطاق المستفيدين من برامج جبر الضرر ليشمل ضحايا مرحلة ما بعد هيئة الإنصاف والمصالحة، خاصة ممن أثبتت تقارير حقوقية مستقلة تعرضهم للتعذيب أو الاعتقال خارج الضوابط القانونية. كما أن الصمت المؤسساتي الذي تواجه به هذه المطالب يُعد مخالفة للمقتضيات الدستورية المغربية .

ثانيًا: البعد المؤسساتي
يطرح موقف المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي يبدو متحفظًا إزاء فكرة “مصالحة جديدة”، تساؤلات حول مدى استقلالية هذا المجلس ومدى وفائه لإرث هيئة الإنصاف والمصالحة. كما أن إعادة بناء الثقة في المؤسسات يقتضي من هذه الأخيرة تبني موقف شجاع ومنفتح تجاه مطالب إعادة الاعتبار، بدل التماهي مع خطاب أمني يختزل هذه المطالب في “تبرير الإرهاب”.

ثالثًا: البعد الحقوقي والسياسي
إن رفض مناقشة جبر الضرر في هذه المرحلة يُسهم في خلق شعور بالغبن لدى فئة من المواطنين، ما ينعكس سلبًا على اندماجهم في الحياة العامة، ويهدد السلم الاجتماعي. كما يناقض مبدأ عدم التكرار الذي يُعد أحد أعمدة العدالة الانتقالية.

إن إعادة النقاش حول جبر الضرر ضرورة حقوقية وأخلاقية لضمان عدم تكرار الانتهاكات، وتثبيت مبادئ العدالة الانتقالية باعتبارها مسارًا دائمًا لا مرحلة ظرفية. كما أن الاعتراف بالمظلومية الجديدة، لا يُشكل تهديدًا للأمن، بل يُعد مدخلًا أساسيا لمصالحة شاملة، تحصّن المغرب ضد انزلاقات الماضي، وتُعيد الاعتبار لروح الدستور ومرجعية حقوق الإنسان.

الإطار المفاهيمي والقانوني لجبر الضرر

1. تعريف جبر الضرر

يُعد جبر الضرر آلية أساسية في منظومة العدالة الانتقالية، تسعى إلى إنصاف الضحايا وردّ الاعتبار إليهم، سواء من خلال تعويض مادي مباشر، أو من خلال تدابير رمزية ومعنوية، تهدف إلى استعادة كرامتهم وإعادة إدماجهم في المجتمع. يقوم مفهوم الجبر على مبدأ الاعتراف بالضرر الناتج عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وتحميل الجهة المسؤولة تبعات ذلك الضرر.

  • الجبر كآلية لإنصاف الضحية وإعادة الاعتبار: يُراد من الجبر أن يُنهي الإحساس بالظلم والتهميش الذي يلاحق الضحايا، عبر إجراءات تعويضية وعلاجية. إنه لا يقتصر على الجانب المالي، بل يمتد إلى إصلاح العلاقات الاجتماعية المتضررة، وإعادة كتابة السرديات الرسمية بما يدمج صوت الضحية.
  • أنواعه:
    • الجبر المادي: تعويض مالي أو امتيازات مادية (منازل، مناصب عمل، خدمات صحية).
    • الجبر المعنوي: اعتذار رسمي، إحياء ذكرى الضحايا، كشف الحقيقة.
    • الجبر الرمزي: نصب تذكارية، تخليد الأسماء، تسمية الأماكن.
    • الجبر الاجتماعي: الإدماج المجتمعي للضحايا وذويهم، دعم نفسي واجتماعي.
    • الجبر القانوني: إصلاح التشريعات، ضمانات عدم التكرار، محاسبة المسؤولين.

2. الإطار القانوني الدولي

ينص القانون الدولي لحقوق الإنسان على حق الضحايا في الحصول على جبر كامل وفعال عن الانتهاكات الجسيمة، ويُعزز ذلك عبر عدة أدوات قانونية ومعايير دولية.

  • الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري (2006):
    تنص على حق الضحية في معرفة الحقيقة، والمطالبة بالتعويض، وتحميل الدولة المسؤولية، وتفرض على الدول اتخاذ تدابير وقائية لضمان عدم التكرار.
  • العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966):
    يُقرّ بحق الفرد في اللجوء إلى القضاء عند وقوع انتهاك، ويُلزم الدول باتخاذ تدابير لإنصاف الضحايا، بما في ذلك التعويض المناسب وردّ الاعتبار.
  • مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن الحق في جبر الضرر
    تُعد مرجعًا معياريًا عالميًا يُحدد أوجه الجبر الممكنة. تشمل هذه المبادئ: التعويض، ردّ الحقوق، التأهيل، ضمانات عدم التكرار، ووسائل الترضية. وهي تعتمد نهجًا شاملاً يراعي طبيعة الانتهاك واحتياجات الضحايا.

3. الإطار القانوني المغربي

تبنى المغرب مقاربة متقدمة في العدالة الانتقالية، لاسيما من خلال تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، وقد انعكس ذلك على المستوى الدستوري والتشريعي.

  • الدستور المغربي (2011:
    ينص في الفصل 23 على أنه ” لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون. الاعتقال التعسفي أو السري والاختفاء القسري، من أخطر الجرائم، وتعرض مقترفيها لأقسى العقوبات. “، ويكفل الضمانات القانونية لحماية حقوق الإنسان.
  • المواثيق الوطنية: توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة:
    أوصت الهيئة بجبر شامل للضحايا، وتم تنفيذ هذه التوصيات عبر برامج التعويض المالي، والتأهيل النفسي، وكشف الحقيقة، وتخليد الذاكرة الجماعية، بما فيها إنشاء “مراكز حفظ الذاكرة” في المناطق المتضررة.
  • القوانين المنظمة للتعويض وإعادة الإدماج:
    تم إحداث “لجنة متابعة تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة”، وإصدار قرارات بالتعويض الفردي والجماعي، وإنشاء مؤسسات كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان للإشراف على تنفيذ هذه السياسات، إلى جانب إصلاح المنظومة الجنائية لتعزيز ضمانات عدم التكرار.

 

 

 

الوضع الراهن للمعتقلين السياسيين في المغرب:

غياب إطار وطني دائم لجبر الضرر ومواكبة ضحايا انتهاكات الرأي

رغم تجربة “هيئة الإنصاف والمصالحة” التي كانت سابقة مهمة في مجال العدالة الانتقالية، فإن ما يؤسف له اليوم هو غياب إطار وطني دائم ومؤسسي يعنى بجبر الضرر الجماعي والفردي المرتبط بمعتقلي الرأي في السياق الحالي. هذا الفراغ يجعل المتضررين عرضة للإهمال والتهميش، ويحول دون إنصافهم مادياً ومعنوياً.

ويُلاحظ أن المؤسسات الوطنية المعنية، مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وبعض جمعيات المجتمع المدني الكبرى التي استفادت في وقت سابق من الدعم العمومي في سياق جبر الضرر الجماعي، تُظهر تردداً واضحاً في تبني ملفات معتقلي الرأي الجدد، إما خوفاً من الاصطدام مع السلطة أو حرصاً على الحفاظ على موقعها المؤسسي. وقد أدى هذا الموقف إلى حالة من التواطؤ الصامت، حيث يُترك المعتقلون السابقون وعائلاتهم لمواجهة مصيرهم دون أي مواكبة نفسية، اجتماعية أو قانونية.

اللافت أن بعض الآليات التي أنشئت بعد هيئة الإنصاف والمصالحة، مثل “لجنة تتبع توصيات الهيئة”، قد جُمد عملها فعلياً، ولم تطور أي تصور عملي لجبر الضرر في السياق الراهن. كما لم تظهر أية إرادة سياسية لفتح مسار عدالة انتقالية جديدة يستوعب الانتهاكات المعاصرة، بما في ذلك الاعتقال على خلفية الرأي والتعبير.

إن غياب هذا الإطار المؤسساتي والحقوقي يضاعف معاناة معتقلي الرأي، ويعطي انطباعاً بأن الإنصاف الذي تحقق في الماضي كان ظرفياً، لا يعكس تحولا بنيوياً في علاقة الدولة بحرية التعبير وحقوق الإنسان.

 

 

إرسال التعليق