حين تكشف التقنية ما نخفيه ولا نراه
حين تكشف التقنية ما نخفيه ولا نراه
رصدالمغرب / عبدالله السعدي
لم تكن المسألة مجرد خاصية جديدة في منصة «إكس». ما حدث كان أشبه بمرآة رقمية وضعت فجأة في وجه الخطاب الخليجي، فظهر ما كنا نتجادل حوله منذ سنوات، وهو أن الفضاء الافتراضي أوسع من حدود الدول، وأن الانفعال الوطني فيه قد يكون صناعة أكثر منه قناعة.
فخلال ساعات قليلة من تفعيل ميزة إظهار بلد منشأ الحساب وموقع التغريد، اكتشف كثيرون أن الوطنية الافتراضية ليست دائما محلية، وأن الخطابات الحادة التي ملأت شاشاتنا قد تكون صدى لمصالح خارج الحدود، أو لارتزاق رقمي، أو لمعارك يتقاطع فيها السياسي بالاقتصادي، والخصومة بالاستهلاك الجماهيري.
لكن القضية ليست في أن حسابا يهاجم من لندن أو القاهرة أو عدن. فالعالم متداخل، واللجوء السياسي والاغتراب والوظائف العابرة للحدود أمور طبيعية، لأن الصدمة الحقيقية جاءت من شيء آخر، وهو أن كثيرا مما نظنه رأيا عاما، قد لا يكون سوى نتاج غرف مغلقة، شركات علاقات عامة، أو جيوش منظمة تسعى لإعادة رسم المزاج الشعبي على الطريقة التي تخدمها.
في الخليج ظهر ذلك بحدة أكبر، حيث الخلافات السياسية والاقتصادية بين دول المنطقة، من تفاهمات “أوبك” إلى سباق المشاريع العملاقة، انتقلت من غرف التفاوض الهادئة إلى ساحات المنصات. ولكن هذا لا يعني أن الخليج يعيش حربا رقمية مفتوحة، بقدر ما يعني أن الدول لم تعد صاحبة الصوت الوحيد في الفضاء العام. فهناك أفراد وشركات ومنصات وجماعات مصالح، ومن دون هذا الإدراك تصبح قراءة أي خطاب سياسي على الإنترنت قراءة ناقصة.
وأما المفاجآت الأخرى، من حسابات خيرية تنطق باسم دول لا تنتمي إليها، إلى حملات تبرعات ذات منشأ مبهم ، فهي تذكير قاس بأن العمل الخيري يمكن أن يختطف مثلما تختطف النقاشات السياسية، وأن الشفافية الرقمية ليست رفاهية، بل ضرورة لحماية الفضاء العام من استغلال الضعفاء قبل استغلال الشعوب.
واليوم لم يعد السؤال هو من يهاجم من؟ بل هو من يصنع المزاج؟ ومن يحقن الخطاب بالعداء؟ ومن يستفيد من تحويل الخلافات السياسية إلى عواصف شعبوية؟
ربما كانت هذه الساعات الأكثر سخونة في تاريخ المنصات الخليجية، لكنها أيضا كشف نادر لطبيعة العالم الجديد، حيث عالم تتداخل فيه الجغرافيا الرقمية مع الواقعية، وتتقاطع فيه المصالح فوق خريطة لا تعترف بالحدود.
إنها خاصية صغيرة، نعم! لكنها كشفت شيئا أكبر بكثير، وهو أن الرأي العام لم يعد محليا، وأننا نعيش زمن الأقنعة الخفيفة والحقائق السائلة.
إرسال التعليق