آخر الأخبار

حين يتحول التشكيك في سلمية الاحتجاجات إلى خطاب لإلغاء وعي الشعب “قراءة نقدية”

حين يتحول التشكيك في سلمية الاحتجاجات إلى خطاب لإلغاء وعي الشعب “قراءة نقدية”

رصدالمغرب / عبدالكبير بلفساحي


منذ اندلاع موجات الاحتجاجات الأخيرة في المغرب، طفت على السطح أصوات تحاول أن تقزم هذه التعبيرات السلمية، إما بردها إلى “مؤامرة خارجية”، أو بربطها بذكريات “الربيع العربي” بوصفه مخططا دبر من وراء الستار، ومن بين هذه الأصوات، كاتبة تقدم نفسها تارة كمدافعة عن قيم الحرية والعدالة، وتارة أخرى كشاهدة على “خدع كبرى” تمارس باسم الديمقراطية، قبل أن تنزلق في النهاية إلى خطاب يطعن في سلمية المحتجين، ويضعهم في خانة “الأدوات” التي يحركها طامحون للسلطة.

أول سؤال مشروع، هو بأي حق تجيز الكاتبة لنفسها أن تصدر أحكاما قطعية على كل من نزل إلى الشارع؟ فالتعميم هو السمة الغالبة في خطابها، إذ تفرغ الاحتجاجات من مضمونها الاجتماعي (التعليم، الصحة، العدالة الاجتماعية) وتحولها إلى مجرد “مسرح سياسي” تحركه نخبة تبحث عن نصيبها من السلطة، حيث هذا المنطق يلغي الإرادة الحرة للشباب والنساء والرجال الذين يختارون الاحتجاج، وكأن الشعب لا يملك وعيا ولا قدرة على الفعل خارج أيديولوجيات النخب.

التشبيه بين 2011 وما يجري اليوم يحتاج دقة أكبر، حيث السياقات مختلفة، لأن هناك وعي مجتمعي أكبر، وتجارب سابقة جعلت السلطات تتصرف بسرعة وذكاء أكبر، فما يسمى بجيل Z اليوم أكثر تنوعا، ليس كله “أداة”، بل فيه شباب يعبر بصدق عن إحباطات اقتصادية واجتماعية،  والقول إن هدفهم فقط “إزاحة أخنوش” أو “إسقاط الأحرار” فيه تبسيط، لأن الاحتجاج الاجتماعي ليس دائما لهدف سياسي مباشر، بل أحيانا صرخة ضد تهميش وغلاء معيشة.

الكاتبة التي كثيرا ما تقدم نفسها كصوت ضد الظلم، تسقط في تناقض فج حين تشيطن سلمية الشباب، وتعتبرها خدعة، لأن وصف اللاعنف بأنه “سلاح مقنع” يفرغ أحد أهم مكتسبات الحركات الاجتماعية الحديثة من جوهره، وهو أن الاحتجاج السلمي ليس أداة للسلطة، بل هو وسيلة المجتمع المدني لفرض صوته على حكومة لا تسمع إلا حين يرفع الصوت في الشارع.

الكاتبة اعتمدت على تجربة مصر وتونس لتبني عليها سردية مفادها أن كل احتجاج ينتهي إلى الفوضى أو الاستغلال، و لكنها تجاهلت أن أسباب فشل الانتقالات في بعض البلدان ليست مرتبطة بالاحتجاج ذاته، بل بغياب الإرادة السياسية لدى الأنظمة، وتدخل القوى المضادة للثورات، والتجاذبات الدولية، بحيث المغرب له ظروف وسياق مختلفان، ولا يمكن اختزاله في مجرد “نسخة مكررة” من مصر 2011.

الكاتبة أصابت حين ذكرت أن خطأ “معركة الجِمال” وقطع الإنترنت عجل برحيل مبارك، و لكن هذا لا ينفي أن استمرار الملايين في الميادين كان ضغطا هائلا بحد ذاته، ولو لم يكن هناك زخم جماهيري حقيقي، لما كان لخطأ تكتيكي أن يسقط نظاما استمر 30 عاما، صحيح أن “العدل والإحسان” وغيرهم سيحاولون استثمار أي حراك، لكن ليس بالضرورة أن يؤدي كل حراك إلى سيناريو مصر أو تونس، فالتعميم يظلم خصوصيات كل بلد ويختزل المجتمع كله في لعبة السلطة.

هناك مبالغة في إرجاع كل شيء للمؤامرة، صحيح أن هناك فاعلين سياسيين وأحزابا وتنظيمات حاولت استغلال احتجاجات 2011 (مثل الإخوان المسلمين في مصر أو بعض التيارات في تونس والمغرب)، لكن اختزال كل ما جرى إلى “أدوات يحركها قادة في الظل” فيه إنكار لطبيعة الغضب الشعبي الذي كان متراكما لسنوات، لأن في مصر، كانت هناك البطالة والفقر والفساد والتعذيب وغياب الكرامة، وأما في تونس، فكان هناك انسداد الأفق الاقتصادي والسياسي، وهيمنة عائلة بن علي على الثروة، وكل هذه العوامل لا يمكن اعتبارها مجرد “ديكور” لصالح قادة يبحثون عن السلطة، حيث هناك من ركب الموجة، لكن الشرارة الأولى لم تكن مصطنعة بالكامل.

ورغم إنكار الكاتبة، إلا أن القارئ العادي يستشعر أن الكاتبة تكتب من موقع أقرب إلى لسان الأجهزة الأمنية منه إلى موقع ناقدة مستقلة، حيث خطابها يتطابق مع سردية رسمية، وهي اعتبار الاحتجاجات “مؤامرة”، ترديد مقولات عن “أدوات” و”محركين خفيين”، ثم تبرير تدخل الدولة باعتباره “ضرورة لإطفاء الشرارة”، كل هذه المصطلحات اللغوية ليست لغة ناقد حر، بل لغة حارس بوابة يبرر القمع مسبقا.

وهناك تقليل من دور التكنولوجيا والجيل الشاب، حيث فكرة “المواطن الرقمي” لم تكن خدعة كاملة، لأن مواقع التواصل الاجتماعي فعلا لعبت دورا حاسما في كسر احتكار الإعلام الرسمي للمعلومة، ولازالت وسيلة ستصنع قرارات في المستقبل، صحيح أن “المدونين” و”نشطاء تويتر” لم يكونوا الأغلبية في الشارع، لكنهم كانوا قناة للتنسيق، لكشف الانتهاكات، ولجذب أنظار العالم، لأن بدون فيسبوك ويوتيوب وتويتر آنذاك، كانت السلطة ستنجح بسهولة في عزل الاحتجاجات والتلاعب بسرديتها كما كانت تفعل سابقا.

وكذلك اعتبار “السلمية” مجرد غطاء للمسلحين أو الطامحين في السلطة مغالطة خطيرة، حيث الحركات الحقوقية في العالم، من غاندي إلى مارتن لوثر كينغ، أثبتت أن اللاعنف قوة أخلاقية وسياسية قادرة على التغيير، مثال في المغرب، رفع الشباب شعارات مرتبطة بالصحة والتعليم والكرامة، وهي مطالب واقعية ومشروعة لا علاقة لها بأجندات نخبوية أو صراعات على الحكم.

وفكرة أن القائد الحقيقي لا ينزل للشارع، وأن كل من نزل مجرد أداة، فيه تجاهل أن كثيرا من القيادات الشبابية الفعلية دفعت الثمن اعتقالا أو نفيا أو تهميشا، وأعطت مثال بوائل غنيم، حيث لم يجلس “ينتظر التفاوض”، بل تعرض لانهيار نفسي واضطراب بعد التجربة، لأن هناك آخرون قتلوا أو اختفوا.

وحين تلجأ الكاتبة إلى اتهام الآخرين بـ”الخيانة” أو “العمالة”، فإنها تنسى أن ماضيها الشخصي في التعامل مع الإسرائيليين مسجل في الذاكرة العامة، ولا يمكن محوه، لأن الوطنية ليست خطابا يزايد به كاتب على شباب يخرجون للمطالبة بحقوقهم، بل هي التزام يومي بمصالح الشعب وقضاياه العادلة، حيث من يتحدث من موقع يبرر القمع أو يهاجم سلمية الاحتجاج يفقد أهليته الأخلاقية للادعاء بأنه “أكثر وطنية” من غيره.

والأخطر ما في خطاب الكاتبة هو إصرارها على تصوير الشباب كأدوات بلا وعي، بينما التجربة الميدانية تظهر العكس، وهو أن هؤلاء المحتجون يعبرون عن وعي متزايد بقضاياهم، وعن رفضهم التام لاحتكار النخب السياسية لمصائرهم، وكذلك وصفهم بالأدوات لا يقلل من شأنهم فقط، بل هو إهانة لمفهوم المواطنة نفسه.

خطاب التشكيك في سلمية الاحتجاجات ليس بريئا، بل يسعى إلى نزع الشرعية عن مطالب اجتماعية مشروعة عبر ربطها بأجندات خفية، لأنه من حق أي كاتب أن يدلي برأيه، لكن ليس من حقه أن يحتكر الحقيقة أو ينصب نفسه قاضيا يحاكم النوايا، و الأجدى اليوم أن نصغي بجدية إلى أصوات الشباب والنساء والرجال الذين يخرجون في وقفات سلمية، بدل أن نمعن في إنتاج سرديات تخوينية تعيد إنتاج نفس الأزمة، وهي أزمة ثقة بين الشعب ومؤسساته.

الشارع ليس بريئا تماما ولا محركا ذاتيا بالكامل، فهو خليط من غضب اجتماعي واقتصادي حقيقي، وفاعلون سياسيون يحاولون الركوب، وأدوات إعلامية وتقنية تضخم وتؤطر، لكن القول إن المحتجين مجرد “كومبارس” لقادة في الظل ينفي الشعب نفسه، ويعيد نفس الرواية الرسمية القديمة التي تصور الشعوب كقصر لا يملكون إرادة.

إرسال التعليق