آخر الأخبار

متى ننعم بتعليم نظيف، يصنع النخبة لا يشتريها؟  

متى ننعم بتعليم نظيف، يصنع النخبة لا يشتريها؟  

رصد المغرب / عبد الفتاح الحيداوي

لم يعد ما يجري في الجامعات المغربية خفيًا أو يُتداول في الخفاء، بل أصبح حديث الشارع وصفحات التواصل الاجتماعي، بعد أن تراكمت الفضائح المتعلقة بالفساد الأكاديمي، وتنوعت بين بيع الدبلومات، وتسجيل الطلبة في مسالك لا علاقة لتكوينهم الأصلي بها، إلى فضائح التحرش الجنسي، والسمسرة داخل الكليات. وبين من يشتري “الماستر” أو “الدكتوراه”، ومن تُمنح له الشهادة مقابل خدمات جانبية، يبقى السؤال الكبير: أي تعليم عالٍ نريد؟ وأي نخب نصنع؟

الماستر والدكتوراه للبيع: شهادات في سوق سوداء

من منا لم يسمع عن تلك “الجامعة الخاصة” التي قبلت طلبة في ماستر القانون، رغم أنهم حاصلون على إجازات في تخصصات لا علاقة لها به، مقابل مبالغ مالية ضخمة؟ لم تكن المشكلة في القبول فقط، بل في أن الشهادات لم تكن معترفًا بها أصلاً من قبل وزارة التعليم، ما دفع الطلبة المغرر بهم إلى رفع دعاوى قضائية طلبًا للإنصاف، بعد أن صُدموا بالواقع المر.

ولم يكن الأمر منعزلاً أو حالة شاذة، فقبل أسابيع فقط، ضجّ الإعلام الوطني بقضية الدكتور في كلية ابن زهر بأكادير، الذي اتُّهم بتزوير وبيع شهادات عليا، ضمن ما سُمّي بـ”شبكة الدبلومات”، في واحدة من أبشع صور انحدار المنظومة الجامعية المغربية.

ثقافة الصمت والتواطؤ: أين الدكاترة الشرفاء؟

المؤلم أكثر أن كل هذه الظواهر ليست خفية داخل أسوار الجامعات. الجميع يعرف، والكل يتهامس. طلبة يعلمون من يمكنه “تدبير” مقعد في ماستر معين، وأساتذة يعلمون من يضايق الطالبات، ويبتزهن، أو يساومهن على شواهدهن. والكل صامت. السؤال الذي لا بد أن يُطرح بجرأة: أين هم الدكاترة الشرفاء؟ لماذا لم يتحركوا؟ أين هو “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” الذي يجب أن يُمارَس على من حوّلوا الجامعات إلى أسواق نخاسة فكرية وجنسية؟

لقد تحولت الجامعة من فضاء يُنتج الوعي ويصوغ النخبة، إلى حلبة للوساطات والانتهازية والتلاعب. حين نعود بذاكرتنا إلى زمن عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري، نتذكر أن الجامعة المغربية كانت مختبرًا للأفكار، ومنصةً لبناء المفكرين الكبار الذين أثّروا في الوعي العربي المعاصر، وأسهموا في معارك التنوير، وطرح الأسئلة الكبرى حول الهوية، والحداثة، والدين، والسياسة. لم تكن الجامعة مجرد فصول دراسية، بل كانت منبرًا للحرية والنقاش والبحث الجاد، وكان الأستاذ الجامعي نموذجًا يُحتذى به في النزاهة الفكرية والصلابة الأخلاقية.

أما اليوم، فكم من كلية خرجت “سمسارًا” بدل أن تخرج باحثًا؟ كم من شهادة دكتوراه صارت تُمنح في المزاد، لا بجهد علمي، بل بصفقات خفية؟ كم من طالبة وجدت نفسها ضحية الابتزاز الجنسي في ممرات الكليات، لا لأنها ضعيفة، بل لأن منظومة الأخلاق داخل الجامعة انهارت، وتواطأ الجميع بالصمت؟

الجامعة التي كانت تصنع رواد الفكر، أصبحت تُخرّج أحيانًا هواة الارتزاق العلمي. والنخبة التي كان يُنتظر منها أن تمارس دورها الطليعي في المجتمع، باتت تُشبه في سلوكها سوقًا صغيرة لتبادل المصالح الشخصية. فكيف نلوم المجتمع إذا ما انهارت قيمه، والجامعة – التي كانت مرآته – صارت هي ذاتها معطوبة أخلاقيًا وفكريًا؟

إنه ليس فقط انحدارًا في الأداء الأكاديمي، بل سقوط أخلاقي عميق يستدعي صيحة ضمير. فاستعادة الجامعة لرسالتها، لا تبدأ فقط بإصلاح القوانين، بل بعودة الضمير الحي إلى قاعات التدريس، وبجرأة المثقف النزيه الذي يرفض أن يختبئ خلف جدران الصمت، ويعيد للجامعة هيبتها بوصفها مؤسسة تصنع الفكر لا الفساد.

 

التعليم العالي في مهب الريح: فساد إداري وأخلاقي

لم يعد الفساد الجامعي مجرد انحراف داخل أسوار المؤسسات الأكاديمية، بل صار صورة مصغرة ومركّزة لفساد أوسع وأعمق، ينهش مفاصل الدولة من قمتها إلى قاعدتها. من الوزارات التي تُدار بالمحسوبية والزبونية، إلى الجماعات الترابية التي أصبحت مراكز للريع المحلي، ومن الإدارات التي تُفرغ من دورها عبر البيروقراطية والرشوة، إلى المناصب التي لم تعد تُمنح بناءً على الكفاءة، بل تُباع وتُشترى في سوق مظلم، لا مكان فيه للجدارة والاستحقاق.

في ظل هذا الواقع المعطوب، كيف يمكن أن ننتظر إصلاحًا حقيقيًا؟ كيف يمكن أن نحلم بمستقبل مزدهر إذا كانت النخبة نفسها مزيفة، مهلهلة من الداخل؟ ما جدوى دكتوراه يحملها شخص لا يُجيد صياغة جملة عربية سليمة؟ ما قيمة ماستر يحصل عليه طالب لا يميّز بين القانون المدني والقانون الجنائي؟ إنها ليست مجرد أخطاء فردية، بل أعراض لمرض بنيوي ينخر المؤسسات التعليمية ويهدد بمحو ما تبقى من الثقة في منظومة التكوين.

والأخطر من ذلك، أن عدوى التزوير لم تعد حكرًا على أفراد في الهوامش، بل وصلت إلى قلب السلطة القضائية نفسها. لقد بدأنا نسمع عن قضاة حصلوا على شهادات دكتوراه مزورة، وعن وكلاء للملك راكموا ألقابًا علمية مشبوهة، وعن محامين يمارسون الدفاع وهم يحملون شهادات مشكوك في صحتها. في هذه الحالة، كيف ستتعامل الدولة مع الأحكام التي صدرت في ظل هذا التزوير؟ كيف سنثق بعد اليوم في منظومة العدالة إذا كانت بعض أعمدتها قائمة على الغش والخداع؟

إن ما نعيشه اليوم في المغرب لم يعد مجرد حالات معزولة من الفساد، بل أصبحنا أمام ما يمكن تسميته بعصابة فساد أكاديمي منظم، تُمارَس فيه الجريمة في وضح النهار، ويُسوَّق للجهل في شكل علم، وتُمنَح فيه الرتب الأكاديمية كما تُوزع الغنائم، بلا رقيب ولا مساءلة. الأخطر أن هذا الفساد لم يعد يُناقش في الهامش، بل استقر في غرف النخبة، يُدار فيها بهدوء، يُبرَّر ويُحمى، بل يُمارَس من طرف من يُفترض أنهم حراس المصلحة العامة.

لقد تجاوز الفساد حد السرقة التقليدية في الشارع أو اختلاس المال العام، وصار اعتداءً على الحلم الجماعي لوطنٍ أراد له أبناؤه أن ينهض بالعلم، فإذا به يُدفن بالتحايل والتزوير. هؤلاء المزورون لا يسرقون المال فقط، بل يسرقون حلم وطن، وأمل طلبة يقضون لياليهم في التحصيل والكد، طمعًا في مستقبل مشرق، قبل أن يُصدموا بحقيقة مرة: أن الطريق إلى القمة في هذا البلد لم يعد يمر عبر الاجتهاد، بل عبر التزوير والتملق.

والأدهى من ذلك أن النخب السياسية، التي يُفترض أن تكون أول من يواجه هذا العبث، بدأت تلوذ بالصمت. وكأنها تقول لنا: “دعوا الأمور تمر، فالكل متورط، ولا أحد بريء بما يكفي ليتكلم.” إنها لحظة فاصلة في تاريخ البلاد: فإما أن نواجه هذا الفساد الأخطبوطي الذي ينخر العقول والمؤسسات، أو نرضى بأن نعيش في بلد يرفع شعار التنمية، بينما يُدار في الخفاء بمنطق الغنيمة.

 

إلى أين نسير؟ ومتى نعود؟

إن ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة تعليم، بل هو انهيار متكامل في منظومة القيم والمؤسسات التي يفترض أن تكون ضامنة للنزاهة والعدالة والكفاءة. لقد تحوّلت الجامعة، في بعض أجزائها، من فضاء للعلم والمعرفة إلى سوق للمصالح والوساطات، حيث تُباع الشواهد وتُشترى، وتُزوّر النتائج وتُلفّق، وتُفرّغ الشهادات من مضمونها الأخلاقي والمعرفي. إننا لا نواجه فقط خللاً في طرق التدريس أو التقييم، بل نواجه ورماً خبيثاً ينخر جسد التعليم العالي من جذوره، ويهدد مستقبل الوطن بأكمله.

المطلوب اليوم ليس محاسبة الأفراد فقط، بل الشجاعة لفتح ملف المنظومة كلها: من معايير الولوج إلى الجامعات، إلى طرق التقييم، إلى آليات التوظيف، إلى شبكات الفساد التي أصبحت تحترف المتاجرة في مصائر الطلبة والباحثين. المطلوب أن يتحمل الجميع مسؤوليته: الوزارة الوصية، والهيئات الرقابية، والنقابات، والجمعيات التربوية، بل حتى المجتمع المدني والإعلام. فقد آن الأوان أن ينهض الجميع لقول كلمة الحق، لا بالتنديد الصامت، بل بالفعل الواعي والحاسم.

ولا يمكن السكوت أكثر عن هذا النزيف القيمي والعلمي. على الحكومة أن تتعامل مع هذا الملف بجدية قصوى، وتضع حداً للتلاعب بمستقبل البلاد. وعلى الجمعيات المهنية والحقوقية أن تخرج من صمتها، وتتحول إلى قوة ضغط حقيقية، تُطالب بفتح تحقيقات شاملة، وبإحالة كل المزورين والمتورطين إلى العدالة. بل أكثر من ذلك: يجب أن تكون هذه المحاكمات علنية، يُتابعها الرأي العام المغربي عبر شاشات التلفاز، ليتأكد الجميع أن الدولة جادة في القطع مع الفساد، ولتعاد الثقة في المؤسسات وفي التعليم، ولترتفع هيبة الجامعة من جديد.

متى ندق ناقوس الخطر بصوت مسموع؟ متى يتحول التعليم من وسيلة للارتزاق إلى أداة لصناعة النخبة الحقيقية؟ متى ننعم بتعليم نظيف، يصنع الإنسان قبل أن يصنع الشهادة؟ إن مستقبل الأجيال على المحك، ولن يغفر لنا التاريخ هذا التواطؤ الصامت.

تعليق واحد

comments user
غير معروف

أصبحنا نشك بأن الأستاذ والمدير والمسير و الوزير والموظف وكل منهم حصل على شهادة مزورة والبرلماني بشراء الأصوات ورجال القانون والأمن بشراء الشوهد حتى يتمكنوا من بيع المواطن وشراء الوطن وإعادة بيعه . إنا في زمن الشواهد المزورة وليس زمن العولمة نخن في زمن الإنحراف و الظلم والفوترة ولسنا في زمن الحكامة و الدسترة .

إرسال التعليق