من ظلاميات البودشيشيين

آخر الأخبار

من ظلاميات البودشيشيين

رصد المغرب /محمد وراضي 

 

مجرد وقوف بعضهم عند هذا العنوان، سوف يصاب بدهشة! وقد تتضاعف دهشته، ويشتد استغرابه، ويقوى تعجبه، ويشتعل غيظه، ويزداد غضبه، ويضطرب جسده ونفسه من فرط ما يتصور صدوره عنه من انفعال، خاصة متى كان مريدا من مريدي طريقة مغربية صوفية عصرية! تعود مشاهدو القناة المغربية الأولى والثانية رؤية شيخها، وحوله أتباع كثر، يرددون ما اصطلح عليه بالأوراد أو بالوظائف! هذه التي تجلب مع غيرها   – على حد زعم أصحابها – عشرات الراغبين في الانضمام إلى أجواء روحانية خارقة غير عادية! ترتاح فيها النفوس! وتطمئن القلوب! بعيدا عن العالم المادي، والصخب الحضاري الذي يلف الآن العالم بأجمعه، من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه.

يسير الشيخ المسن الوقور أحيانا بين مريديه ببطء ملحوظ، مساندا باحترام من اثنين حوله يبديان الإعجاب والتقدير! بحيث يركز المخرج التلفزي على صورة الرجل المحترم في وضعه ذاك، لشد أنظار المشاهدين والمتفرجين مثلي إلى عظمة من يقصده الزوار “من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات”[1] على ما أغدقه عليهم من خير مشخصا في شيخ قلما يجود الزمان بمثله!!!

غير أن المخرج التلفزي لم يقدم للمشاهدين والمتفرجين صورا للشيخ منبسطا على السرير، والدكاترة والأساتذة والمعلمون، وبعض المسؤولين الكبار يتساقطون عليه لتقبيل رجليه أو يديه، أو رأسه أو كتفيه، أو لتقبيلها كلها على التوالي بدءا بالرأس، فانتهاء بالقدمين أو العكس! كما أنه لم يقدم للمشاهدين والمتفرجين صور الهدايا والهبات والقرابين التي تصل إلى الزاوية الأم بمداغ كل يوم! ربما لأنها تدخل من الأبواب الخلفية السرية! ثم إنه لم يقدم لهم صورا للخرفان التي تذبح مع مطلع كل نهار! إن لم ينب عنها عجل جسد له خوار! ولا قدم لهم صورا عن تسلم الشيخ للفتوح التي يتبرع بها الأتباع الأثرياء، أو الزوار الباحثون لديه عما يسمى بالبركة!! هذا إن كان لا يزال يتسلمها بيديه! وإلا فهناك من ينوب عنه من الجباة، كما ينوب جباة الضرائب عن وزير المالية في أية دولة عصرية!

وتلك الهدايا والأعطيات والفتوح المتقاطرة على الزاوية وصاحبها وعمارها، ما محلها من الإعراب؟ هل هي حلال أم هي حرام على من يستقبلونها بحرارة وتلهف شديدين صباح مساء؟ أم إن فيها من الشبهة الشديدة ما يدخلها في دائرة الحرام المحض؟ مما يدفعنا إلى عرضها أمام حديث صحيح يرويه الشيخان عن المختار ص هذا نصه: “إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”[2]!

حتى لو سلمنا جدلا بأن الشيخ البودشيشي الوقور، لم ينتهج غير نهجه ص، وأنه لا يقتدي بغيره، وأنه على صراط الله المستقيم. أو أنه هو وأصحابه أشبه بأهل الصفة! وأنه من كبار الزهاد عندنا في مغرب اليوم. فهل الزهد يعني الإقبال على المتاع الدنيوي في أجواء احتفالية، يتم نقلها عبر الشبكات التلفزية إلى أماكن بعيدة من المعمور كله؟

لن نقول إن شيخ البودشيشيين وأتباعه بالمنهاج النبوي متشبثون، وعلى خطاه ص سائرون، وإلا لم نكن لنعلن الإقدام على كشف ما لدى البودشيشيين من بدع وظلاميات كباقي الطرقيين! ولن نقول: إن صاحبنا وأتباعه بأهل الصفة أشبه! فهؤلاء لم يكن لهم شيخ وقور يقبل مريدوه يديه ورجليه! ولم تكن الهبات والأعطيات والفتوح والذبائح تتقاطر عليهم من الشروق إلى الغروب! ولا كانوا يعقدون حلقات مبتدعة للذكر الجماعي كما يفعل أتباع العباس وبعده حمزة! ورأس “جماعة العدل والإحسان”، ووزير الأوقاف الحالي، شاهدان على ما ندعيه! ولا كان أهل الصفة يعرفون ما هي “الحضرة” أو “العمارة”؟ ولا كانوا يعرفون التقرب إلى الحق سبحانه بتكرار لفظ الجلالة “الله الله”! أو بتكرار لفظ الضمير الغائب “هو هو”! أو بتكرار نداء ” يا لطيف يا لطيف” المنسوب إلى ابن حجر الهيثمي كما يدعي البودشيشيون؟ بل إن أهل الصفة جماعة من المهاجرين الذين تركوا خلفهم الديار والأهل والمتاع، وهاجروا إلى المدينة المنورة، ملتحقين بركب المسلمين، معززين للإسلام، فكانوا بذلك في طليعة الزهاد الذين أدبروا عن الدنيا، بعد الزاهد الأكبر عنها محمد نبي الله ورسوله. لا في طليعة الزهاد المفترضين المعاصرين الذين أقبلوا على الدنيا ومباهجها وملذاتها إقبال النهم على الطعام، وإقبال العطشان على الماء!!!

قال تعالى يصف أهل الصفة المدبرين عن الدنيا والمقبلين على ربهم بإخلاص وصدق، كما يصف جميع الفقراء المهاجرين الساعين وراء ما هو أدوم وأبقى: “للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا”[3]! وقال سبحانه: “للفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون”[4]! يعني أنهم كانوا لا يرون “زاد المعاد” إلا “في هدي خير العباد”! بينما الطرقيون يرون “زاد معادهم” في مبتدعات من سبقهم وتقدمهم من الضلاليين والظلاميين!

إن البودشيشيين انطلاقا من الأضواء التي تم لنا تسليطها عليهم حتى الآن “لا يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف”! وسيماهم غير دالة على أنهم “لا يسألون الناس إلحافا”! وسلوكهم لا يدل على أنهم “يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله”! وذلك لأن اتباع الرسول ص في الأقوال والأفعال باب مفتوح لنيل فضل الله ورضوانه. أما عدم اتباعه، أو عدم الاقتداء به، فباب مغلق مسدود أمام كل مبتدع، يعني أن جميع المبتدعين  – إذا لم يتوبوا – محرومون من فضل الحق سبحانه عليهم ومرضاته وحبه، لأنهم لا ينصرون الله بالوقوف عند حدود أمره ونهيه! ولأنهم لا ينصرون نبيه ص بتنفيذ مضامين طاعته! ومن بين طاعته الاقتداء به في كل شيء. وإلا فإنهم ضلوا وأضلوا.

مما يعني أن انقياد ملايين الأتباع والمريدين لشيخ صوفي ما، لا ينهض دليلا على أن متبوعهم مصيب أو محق فيما يدعيه!

فالغزالي الفقيه العالم الصوفي الأصولي الفيلسوف، لم تصنه مدركاته وحصيلته المعرفية العالية من الانجرار وراء سراب يعتقده ماء! فكان أن غدا لغيره من المتنورين حتى الآن – للأسف الشديد – قدوة في التصوف! فإن ادعى أن “الحقيقة”إنما توجد لدى الصوفية. فقد ادعى نفس ما ادعاه متنورون مغاربة معاصرون. منهم على سبيل المثال لا الحصر: عبد السلام ياسين. والدكتور طه عبد الرحمان!

ففي مقدمة “الإسلام أو الطوفان” لرأس “جماعة العدل والإحسان”. نجد أنفسنا أمام مجرد باطل لم يقف المصرح به عند التشبع به. وإنما تولى في أكثر من مؤلف له نشره والترويج له! قال: “ولما أذن الله جل شأنه بعتق رقبتي من الجهل والإسلام الموروث المجهول إلى طريق الحق والحياة! أنهضني لطلب معرفته. وكانت أزمة روحية لم يستطع من يعرفونني أن يميزوا بينها وبين الأزمات المرضية، إلى قوله: ما يقصده المريدون من الصحبة”[5]!

أما أستاذ علم المنطق وفلسفة اللغة بكلية الآداب – الرباط. الدكتور طه عبد الرحمان. فقد أهدى مؤلفا له بعنوان: “العمل الديني وتجديد العقل” إلى شيخه البودشيشي الصوفي حمزة بن العباس فقال: “أتراني أوفي آداب الإهداء حقها إن أنا قدمت هذا العمل العلمي إلى من لو أهدي “ما طلعت عليه الشمس” لم يكن عوضا عما تداركني من الهداية بصحبته، ونالني من الخير بإرشاده: فلقد أخرجني من البعد إلى القرب، ومن الفصل إلى الوصل، بتجديد إيماني وتعليق قلبي بالواحد الأحد الله الصمد (…)

وما قصدي، وأنا أعلم بالغ تقصيري في الإهداء ومنتهى عجزي عن الشكر، إلا أن يحظى اسمي في هذا الكتاب بالاقتران باسم العارف الرباني والعالم الصمداني والشيخ المربي، سيدي وأستاذي حمزة بن العباس القادري”[6]!!!

فإن سألنا الأول عن الحق الذي وجده لدى الصوفية؟ وعن الطريق الذي سلكه حتى يصل إلى المطلوب العزيز النادر فيعض عليه بالنواجد. وعن الإسلام الموروث المجهول الذي أذن الله بعتق رقبته منه على يد شيخ عارف واصل؟ فماذا يا ترى تكون إجابته؟

وإن سألنا الثاني عن المسلك الذي سلكه شيخه كي يخرجه فعلا من “البعد” عن الله إلى “القرب” منه؟ ومن “الفصل” الذي كان بينه وبينه إلى “الوصل” الذي أصبح يتمتع به بعد أن تحقق منه. فماذا لديه يقدمه لنا كمسترشدين باحثين عن النصح والتوجيه؟ هل القناعات النظرية والممارسات العملية الصوفية هي المنهاج الذي تم عن طريقه تمكين ياسين من الحق الذي كان ينشده؟ كما تم عن طريقه عتق رقبته من عبودية الإسلام الذي كان مجهولا لديه؟ وهل نفس القناعات ونفس الممارسات هي التي جعلت طه عبد الرحمان قريبا من ربه بعد أن كان بعيدا عنه؟ كما جعلت “الفصل” عنده يتحول إلى “وصل”؟

من المسلمات الدينية المعروفة لدى الخاص والعام أن الله “ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور”[7]! وأنه سبحانه “نور السماوات والأرض”[8]!وأنه خاطب نبيه بقوله: “ألر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور”[9]! وأنه تعالى قال في سورة إبراهيم: “ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور”[10]!

مما يدل دلالة تامة على أن الله أولا هو الذي يخرج عباده من ظلمات الجهل إلى نور العلم. أو من ظلمات الشك والتردد إلى نور التحقق واليقين. وأن الرسول ثانيا هو الذي يمثل السراج المنير والهادي إلى الصراط المستقيم لدى جميع المسلمين والمسلمات. أي أنه – تنفيذا لأمر ربه – يخرج الناس من الظلمات إلى النور.

فكيف إذن يتولى غير الله وغير رسوله إخراج الناس من الضلال المبين إلى النهج القويم الذي عن طريقه يحققون ما سماه طه عبد الرحمان ب”القرب” بدل “البعد”! ويحققون “الوصل” بدل “الفصل”؟

قد نقول كما قال ص: “العلماء ورثة الأنبياء”[11]. وقد نقول كما قال: “العلماء أمناء الرسل, ما لم يخالطوا السلطان ويداخلوا الدنيا. فإذا خالطوا السلطان وداخلوا الدنيا، فقد خانوا الرسل فاحذروهم”[12]. وقد نقول كما قال الحق سبحانه: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”[13].

لكن سؤالنا الأساسي هو بالتحديد: هل مشايخ الطرق “ورثة الأنبياء”؟ وهل هم بالتالي – وقبل ذلك وبعده – معدودون من أهل الذكر؟

إن الحديث عن الورثة معناه وجود صلة وثيقة بين الوارثين والموروثين وموضوع الإرث، أو الإرث عينه. أما الحديث عن أهل الذكر فلا يعني حفظة القرآن الكريم وإنما يعني كذلك معرفة مجمله ومفصله، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، وأسباب نزوله، ومكيه ومدنيه، ومضمونه في الجملة باختصار. فضلا عن العمل به. فضلا عن الوقوف عند أمر الله ونهيه فيه. فضلا عن طاعته سبحانه وعن طاعة مجتباه التي تعني الاقتداء به أو اتباع سنته؟

فإن تحققنا من سنية المشايخ الطرقيين، وتأكدت لدينا طاعتهم لله سبحانه، وتأكد لنا بالأدلة القاطعة تقواهم وورعهم واستقامتهم. اقتنعنا وتأكد لنا أنهم فعلا يوجهون أتباعهم أو مريديهم إلى سبل يسهل عليهم سلوكها “القرب” و”الوصل” ونيل رضى الرحمان أو مرضاته.

قال أحمد الآدمي الصوفي (توفي 309ه – 921م): “من ألزم نفسه آداب الشريعة نور الله قلبه بنور المعرفة. ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب ص في أوامره وأفعاله وأخلاقه”[14].

وقال أبو حمزة البزار (توفي 289ه – 902م):”من علم طريق الحق، سهل عليه سلوكه. ولا دليل على الطريق إلى الله تعالى (كي يتم القرب والوصل) إلا متابعة الرسول ص في أحواله وأفعاله وأقواله”[15]!

وقال سعيد الحيري (توفي 298ه – 910م): “من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة. ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة”[16]! قال الله تعالى: “وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين”[17].

وقال أحمد بن الخواري الصوفي (توفي 230ه – 845م): “من عمل عملا بلا اتباع سنة رسول الله ص فباطل عمله”[18]! يعني أن كل من أتى بعمل تعبدي، غير مقتد فيه بالرسول،مخالفا في أدائه الكيفية التي كان يؤديه بها ص فعمله ذاك في مهب الريح! أي لا يقبله الله منه!

وماذا بعد؟

بين أيدينا كتاب لبودشيشي مجاز في الفلسفة! ومتخرج من دار الحديث الحسنية! وخطيب مسجد الديوان بفاس! وعضو في لجنة تأليف “معلمة المغرب”! وعضو في “جمعية فاس – سايس”!

عنوان الكتاب: “مساهمة في البحث عن زوايا بني يزناسن: القادرية البودشيشية نموذجا”.

إنه من بين المراجع التي يمكن اعتمادها للاقتراب من مدرسة صوفية مغربية بدعية، لا تزال حتى الآن تحظى باهتمام خاص من أطراف عدة. والدولة كطرف من هذه الأطراف، تسخر وسائل إعلامها للدفع بشيخها وبمريديه إلى الواجهة! كما تسخر وسائل إعلامها لوضع أصحاب الأضرحة والقباب، ومن تقام لهم المواسم السنوية في المكانة التي يستحقونها في نظرها وفي نظر مهندسي سياستها الدينية بالتحديد! وكأنهم حتى الآن أحياء في القبور يرزقون! يأكلون ويشربون ويتغوطون! مساهمتهم في الدفع بمغربنا إلى الأمام، في عصر ولت فيه الخرافة والبلادة والغباء إلى غير رجعة، مساهمة لا تزال قائمة! فكان من واجبي كمهموم قلق على مستقبل بلادي، أن أسلك مسلك مفكري عصر الأنوار في الغرب. وعلى المهمومين مثلي أن ينجدوني ويساهموا معي في تحرير العقلية المغربية من ظلاميات لم نجد  – للأسف الشديد  – لدى النظام غير العمل الدؤوب على ترسيخها والدفاع عنها لحاجة في نفس يعقوب قضاها، ثم لا يزال مصرا على قضائها!

إن البودشيشية إذن كطريقة بدعية لها وجود في أوساط عدة، عبارة عن سفينة نجاة! أو عبارة عن سفينة من ضمن سفن غيرها للنجاة، دون الاهتمام بالمواد التي صنعت منها، وبمن صنعها، ودون التفكير في كونها معرضة كباقي السفن المصنوعة من مواد هشة إلى الغرق في أية لحظة!

لقد أوضحت في عجالة بعضا من تلك المواد التي دخلت كعناصر رثة مثل الثياب في نسيجها السمج الهجين الذي تشمئز النفوس منه! أوضحت ذلك من خلال كل ما قدمته عن الفكر الظلامي! أوضحته حين الحديث عن الشاذلية والدرقاوية والتجانية بالتحديد. وهو ما سوف يؤكده صاحب الكتاب المذكور قبله، فقد حدد ثلاثة مصادر لطريقته المفضلة على باقي الطرق. فإن كان مصدرها الأول هو القادرية فإن مصدريها: الثاني والثالث هما: “الدرقاوية” و”التجانية”. وهذه المصادر عبر عنها، أو قدمها حين حديثه عن الأسانيد الثلاثة للطريقة.

1- فعن السند الأول قال: “حمزة بن العباس بن المختار (ت 1333ه) بن الحاج محيي الدين، بن الحاج المختار الأول، بن محمد فتحا، بن علي بن أبي دشيش، بن محمد، بن محمد، كذلك بن محمد (…  ) بن الحسن السبط، بن الإمام علي كرم الله وجهه، زوج السيدة فاطمة الزهراء، بنت رسول الله ص، وهو السند الصوفي الأول”[19]!

وأمام هذه السلسة من الرجال الممتدة من حمزة بن العباس إلى الرسول ص – مع الإشارة إلى أننا أغفلنا إدراج أكثر من هؤلاء تجنبا للإسهاب  – نقف فقط عند شيئين اثنين:

أ-لا فرق عندنا بين من يقول: أخذت عن “س”، عن “ج”، عن “ص”! وبين من يقول: آخذت عن علي بن أبي دشيش بن محمد بن محمد، كذلك بن محمد! فالرجال في هذه السلسلة مجهولون! وعهدنا بالمحدثين أنهم يشترطون معرفة رجال السند بالعين والصفة، أي إنهم يهتمون بكل ما يتعلق بالرواة: أين ولدوا؟ ومتى؟ وعمن أخذوا؟ وما مبلغهم من العلم؟ وما مدى قدرتهم على الضبط والحفظ؟ وما درجة استقامتهم وتقواهم؟ أما أن يأتي البودشيشيون فيتحدثون لنا عن أبي دشيش بن محمد، بن محمد، كذلك بن محمد! فمن حقنا أن نسألهم عن هوية هؤلاء المحمدين. من هم؟ وأين ولدوا؟ هل هم علماء؟ أم هم مجرد أميين؟ أم هم أشباه علماء؟ أم هم أشباه أميين؟ وهل خلفوا وراءهم بعض الآثار؟ وما هي هذه الآثار؟

ب- إن كنا لم نستسغ التوسط بالمجهولين إلى الرسول ص. فما هو المتن الذي كنا نتوقعه بعد انتهاء صاحبنا البودشيشي من سرد سند طريقته الأول؟ فهل نعتبر كل ما يشتغل به البودشيشيون من الأذكار المرافقة للشطح وغير المرافقة له، هي المتن أو المتون؟ الصادرة  منه ص؟

من ادعى أن المتن هو جميع ما يشتغل به البودشيشيون من أذكار بالفعل، فلنقل فورا بأنه مفتر كذاب! أما إذا لم يكن جميع ما يشتغلون به من أذكار هو المتن، فما الفائدة عندها من السند؟ فهل نكذب على الناس، وقبل ذلك على الله وعلى رسوله؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى نوجه نفس الانتقاد إلى جميع الطرق التي تدعي أن لها سندا يربطها ويربط شيوخها بالرسول ص عبر رجال في حلقة متسلسلة، من شيخ الطريقة تنطلق وإليه ص تنتهي؟ وعندها نسأل عن المتون التي وصلت إلى أكثر من شيخ طريقة، عن النبي ص؟  لكن بما أن الشيوخ لا يمكنهم الادعاء بأن جميع ما يشتغلون به، كان الرسول ص يشتغل به، فأي حل نجده، وأي حل يقدمونه، وهم يرتبطون بسلاسل من الرجال تربطهم – كما يدعون – بسيد الناس على اعتبار أنه شيخهم الأول والأخير؟ لكن هل بلغهم بأنه عليه السلام، كان يرقص، وهو يؤدي أذكارا بعينها والصحب الكرام حوله يرقصون مثل رقصه؟

2- إن السند الثاني صورة طبق الأصل للسند الأول من وجهين:

أ- ظهور رجاله كرموز مجهولة العين والصفة، مثل: وهو أخذ عن الشيخ نور الدين، وهو أخذ عن الشيخ ولي الله، وهو أخذ عن الشيخ زين الدين …   إلى قوله: وهو أخذ عن الشيخ عبد القادر الجيلاني[20] … ومن الشيخ عبد القادر إلى النبي ص!

ب- عدم التصريح بعد الانتهاء من تقديم رجال السند بالمتن أو بالمتون، فنحن لا نعرف بالتحديد ما الذي أخذه نور الدين عن ولي الدين، وماذا أخذه هذا الأخير عن زين الدين  … إلى آخر السلسلة. نعني وصولا إلى من يفترض أنه مصدر المتن أو المتون. إنه النبي ص. والنبي ص للتذكير مفترى عليه! لا علاقة له بما أحدثه الضلاليون من بدع وظلاميات!

3 – جديد السند الثالث هو الخلط الذي يميزه أكثر عن السندين المتقدمين، وهذا عندنا بيت القصيد، فرجال السند الأول والثاني كلهم قادريون – على حد زعم الزاعمين – من الشيخ العباس، إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، إلى الرسول الأكرم ص. ومن هنا جرى الكلام عن “القادرية البودشيشية”! في حين أن رجال السند الثالث قادريون ودرقاويون وتجانيون.

قال صاحب الكتاب الذي نستنطق بعضا من محتوياته، أحمد الغزالي: “أخذ كل من حمزة ووالده العباس عن سيدي بومدين، وهو أخذ عن السيد المهدي بلعريان السباعي ( التجانية) كما أخذ عن السيد محمد بن موسى (التجانية أيضا). كما أخذ عن محمد لحلو ( الدرقاوية)، ومحمد لحلو أخذ عن الشيخ محمد بنعلي الدرقاوي المراكشي، وهو تلميذ الشيخ محمد العربي الهاشمي (شريف علوي قاضي مدغرة). وهو تلميذ الشيخ أحمد البدوي الفاسي (المدعو الزويتن)، وهو تلميذ الشيخ الكبير مولاي العربي الدرقاوي”[21].

ثم يختم حديثه عن الخليط أو المعجون الذي قدمه بكلام. محتواه من الرعونة والخيلاء يفضح صاحبه إذ يقول: “وهذا الكلام لا يفهمه جيدا إلا ذوو الاختصاص! كما قال الشيخ حمزة القادري، الذي صرح مرارا أن الحكمة في التلقيح والترقي، وليست الحكمة في طبيعة الذكر والورد، بقدر ما هي في الإذن الذي يرثه الشيخ المربي، ويمد به من يريد، أو من يطلب ذلك من أهل الطرق المختلفة الأخرى، فيحصل التلقيح والتجديد”[22]!

إن “المعجون” الذي قدمه الرجل في الفقرة المتقدمة، أشبه ما يكون بذاك الرائج في أوساط المتعاطين للحشيش تحت مسميات عدة! والمتخدرون بالمعجون الذي هيأه وقدمه، أتباع مخدوعون من فرط تضخيم صاحبنا لما ساقه إلى القراء من معلومات، لا يدرك مدلولاته – كما قال – غير ذوي الاختصاص مثله، ومثل شيخه حمزة بن العباس وعبد السلام ياسين والوزير أحمد التوفيق، والدكتور طه عبد الرحمان! وغير هؤلاء من المتنورين البودشيشيين!

ولكننا نحن نقول: إن صاحبنا وشيخه حمزة بن العباس في طليعة الذين يجهلون تمام الجهل فن تطبيب النفوس. فالتطبيب عند من يمارسونه، لا تغيب عنهم مستلزماته، وشروطه، وضوابطه! مع التأكيد على وجود فوارق شاسعة بين تطبيب الأبدان وتطبيب النفوس والعقول! وفي الحالتين كلتيهما، لا بد للطبيب من تشخيص الداء، ولتشخيصه لا بد من حضور المريض بين يديه، وإلا حضر إليه في بيته هو كشيخ (كما يحضر المختار ص في اليقظة إلى بيوت الظلاميين الذين يزعمون أنه شيخهم في الطريقة!)، وبعد تشخيصه لأعراض المرض الذي يشكو منه مريضه، ينتقل إلى مرحلة مده بالدواء! ولا يمكنه أن يصف نفس الدواء لمريض لم يقم بفحصه، ولا قام بتشخيص أعراض مرضه! وبما أن الأمراض مختلفة (وهذا هو المنطق) لزم أن تكون الوصفات الطبية مختلفة … أما أن يستعمل المريض بالقلب، نفس الوصفة التي يستعملها المريض بالمعدة، فإن معالجته تصبح متعذرة، بل يمكن لمريض ما أن يلقى حتفه إن هو تناول دواء لا يصلح للقضاء على المرض الذي يشكو منه بالفعل!

ولنوجه هنا نظر شيخ البودشيشيين المتخصص في التعامل مع “الأخلاط” أو “المعاجين” إلى نص ثمين لأبي حامد الغزالي في “الإحياء”. فعنده أن الشيخ المتبوع الذي يطبب نفوس المسترشدين، لا ينبغي له أن “يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص، وفي طريق مخصوص، ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم، وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، فكذلك الشيخ، لو أشار على المريدين بنمط واحد في الرياضة، أهلكهم وأمات قلوبهم، بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد، وفي حاله، وسنه ومزاجه، وما تحتمله بنيته من الرياضة، ويبني على ذلك رياضته”[23]!

وبتحليلنا لهذا النص الصوفي التاريخي الذي لم نسقه كله، نخرج بالنتائج الآتية:

1- التصوف الطرقي منذ نشأته قضى نهائيا على فن التربية الصوفية، فآلاف الأتباع الذين لم يعرفوا شيخ الطريقة التي هم عليها، إما لبعده عنهم، وإما لأنه قد مات منذ زمن بعيد، يستعملون وصفة واحدة، وكأنهم مصابون بنفس المرض! وتحت إشراف المعروفين بالمقدمين الجاهلين لفن التربية كشيوخهم المتبوعين سواء بسواء!

2- بما أن المطلوب دينيا هو بناء إنسان مسلم، تقي ورع مستقيم، فإن عملية البناء المنوطة بالمعلمين والمربين، لها شروط وضوابط يجهلها حمزة بن العباس وتوابعه! وفي مقدمتها وجوب تمسك المربين والمعلمين بسنن المصطفى عليه الصلاة والسلام.

3- مع مشايخ التصوف الأوائل، لا حديث عن مريدين يجهلون شخصية الشيخ! أي لا حديث عن مريدين غير ملازمين له. فالشيخ طبيب، والطبيب لا يعالج مرضاه بالمراسلة، ولا بواسطة من يمثله في بلد ما، إن لم يكن هو نفسه طبيبا له نفس مهارة من يمثله وقدرته وعلمه!

وكمثال مثير للاستغراب عمن تم قتل نفوسهم من طرف شيخ طرقي لم يشرف مباشرة على تربية مريديه، ما جاء على لسان العلامة السلفي محمد بن العربي العلوي.

قال: “جاءني شاب، كان متمسكا بالطريقة الكتانية تمسكا عظيما وقال لي: أريد أن أتوب على يدك من الطرائق كلها، وتعلمني التمسك بالكتاب والسنة، فقلت له: وما الذي دعاك إلى الخروج من طريقتك التي كنت مغتبطا بها؟ فقال لي: إنه أمس شرب الخمر وزنى، وترك صلاة العصر والمغرب والعشاء، فمر بالزاوية الكتانية، وسمع المريدين يرقصون ويصيحون بأصوات عالية والمنشد ينشدهم، وكانت بقية سكر لا تزال مسيطرة عليه، فهم أن يدخل الزاوية ويرقص معهم، ولكنه أحجم عن ذلك لأنه جنب، ولم يصل شيئا من الصلوات في ذلك النهار، إلا أن سكره غلب عليه فدخل الزاوية، ووجد محمد بن عبد الكبير (المؤسس للطريقة) في صدر الحلقة، والمريدون يرقصون، فاشتغل معهم في الرقص، وكان أنشطهم، فلما فرغوا من رقصهم، دعاه الشيخ وقبله في فمه وقال (له): رأيت النبي ص قبلك فاقتديت به!!! ولما دعاني خفت خوفا شديدا وظننت أنه قد انكشف له حالي، وهو يريد أن يوبخني على ذنوبي. فلما قال لي ذلك أيقنت أنه كاذب في كل ما يدعيه ويدعو إليه، وإلا كيف يرضى عني النبي ص ويقبلني في فمي مع تلك الكبائر التي ارتكبتها في ذلك اليوم؟ قال: فهذا سبب مجيئي إليك لأتوب إلى الله من الطرائق كلها، وأتبع طريقة الكتاب والسنة”[24]!

أما “الأخلاط” أو “المعاجين” التي يتوهم شيخ البودشيشيين الحالي حمزة بن العباس تقديمها إلى المريدين كقوت أو كزاد، فإنها لم تكن في الحقيقة غير ضلاليات وظلاميات. بعضها منسوب كذبا وزورا إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني! وبعضها منسوب حقيقة إلى الضلالي الدرقاوي المؤسس للطريقة المعروفة باسمه! وبعضها منسوب إلى الظلامي الزنديق أبي العباس أحمد بن محمد التجاني!

وبما أننا قد تعرفنا سابقا على الضلال الدرقاوي الواضح البطلان! وفي الوقت ذاته على الظلام التجاني المكثف كخليطين هجينين مسمومين! فإنه لم يبق لنا غير التعرف على الظلام القادري كعنصر ثالث من الخليط الذي يزود به حتى الآن شيخ البودشيشيين مريديه!

إن طريقة الشيخ العباس وابنه حمزة، عرفت – كما هو معلوم – بالقادرية البودشيشية، مما يفهم معه أن المدد الروحي الذي تلقاه علي بن أبي طالب عن الرسول ص (وكأن بقية الصحابة لم يتلقوه عنه) وصل إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، ومنه عبر وسطاء ممتازين، ومن ضمنهم محمد بن محمد، كذلك ابن محمد، وصل إلى شيخ البودشيشيين في الوقت الحاضر! (2008م).

ولكي يصل المدد الروحي النبوي إلى أي كان – هذا إن نحن سلمنا بوجود هذا المدد الغامض خارجا عما وصل إلى جميع المسلمين عنه ص من كتاب وسنة – فلا بد أن يكون عمل المستقبلين له، أو عمل متلقيه متصفا بصفتين: أن يكون خالصا لوجه الله، وأن يتم أداؤه كما كان النبي ص يؤديه، وعندها يكون المدد عبارة عن فضل من الله تعالى على من أخلص له، واقتدى كما أمره بسنة رسوله.

فمن هو الشيخ عبد القادر الجيلاني؟ وما الصلة التي تربطه بالسند البودشيشي المزعوم الذي بين أيدينا؟

يقول ابن كثير: هو”ابن أبي صالح أبو محمد الجيلي ولد سنة سبعين وأربعمائة، ودخل بغداد، فسمع الحديث، وتفقه على أبي سعيد المخرمي الحنبلي، وقد كان بنى مدرسة، ففوضها إلى الشيخ عبد القادر، فكان يتكلم على الناس بها، ويعظهم، وانتفع به الناس انتفاعا كثيرا، وكان له سمت حسن، وصمت، غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه تزهد كثير، وله أحوال صالحة ومكاشفات، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالا وأفعالا ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحا ورعا، وقد صنف كتاب “الغنية” و”فتوح الغيب” وفيها أشياء حسنة، وذكر فيها أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة، كان من سادة المشايخ، توفي وله تسعون سنة، ودفن بالمدرسة التي كان فيها”[25].

فعبد القادر الجيلاني إذن رجل فقيه عالم، زاهد واعظ، قليل الكلام، إلا عندما يصدع بالحق، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، تقي ورع. له أحوال صالحة ومكاشفات يحدها ما يعرف بفراسة المؤمن في الحديث النبوي الشريف. بينما يغالي أصحابه فيه فينسبون إليه ما لم يصدر عنه من أقوال، ومن أفعال ضلالية وظلامية!

إنه مثل جميع المشايخ المهتمين بالممارسات التعبدية، أكثر من اهتمامهم بالعلوم في مجال الفقه والحديث والتفسير، ومن هنا كان اعتماده فيما يؤلفه من كتب الوعظ والإرشاد، على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، كالحارث بن أسد المحاسبي، وأبي طالب المكي، وأبي حامد الغزالي، وغير هؤلاء. ومع ذلك لم يسجل عليه الدخول في دائرة الفكر الظلامي البدعي، كما سيسجل على من يدعون أنهم من أتباعه.

فعماد الدين بن كثير الذي قدم لنا صورة موجزة منذ حين عن عبد القادر الجيلاني في كتابه “البداية والنهاية”، لم يشر إلى أنه شيخ لطريقة معروفة باسمه! ولا أشار إلى أنه يعقد حلقات للذكر الجماعي! ولا أشار إلى أنه يرقص مع أصحابه وهم يؤدون ذلك الذكر! ولا أشار إلى ما يقال في تلك الحلقات إن كان يقيمها بالفعل! وهذا يدل على أن الرجل بريء تماما من الممارسات التعبدية الطرقية المبتدعة التي يدعي البعض نسبتها إليه!

فلو تصفحنا كتابه القيم “الفتح الرباني والفيض الرحماني” ما عثرنا فيه على ما يؤكد كونه شيخا لطريقة صوفية بطقوسها، وبشروطها، وبقواعدها المعروفة، ولكننا وجدنا فيه رجلا عمله خالص لربه، وأقواله تصب جميعها في خانة الاقتداء بالنبي ص، وهذه نماذج من كتابه هذا لمجرد التدليل على صحة ما ندافع عنه:

1- قال: “الشجاعة في الدين تكون في قضاء حقوق الله عز وجل”[26]. وحقوقه سبحانه هي الوقوف عند حدود أوامره، وعند حدود نواهيه، ومن ضمن أوامره: طاعة رسوله. ومن ضمن نواهيه: تجنب المغالاة في الدين بالابتداع فيه. وما عليه الطرقيون من كلام غير مسنون يرددونه، وما هم عليه من رقص وشطح، وما نسجوه من ضلال وظلام حول شيوخهم الذين يرفعونهم إلى مستوى المقدسين المعصومين! كل هذا يقطع عنهم بدون ما شك طريق الوصول إلى حيث يريدون الوصول، خاصة متى عرفنا اعتمادهم على شيوخ كذابين أغبياء ضلاليين كالتجاني ومن له به شبه!

2- قال: “يا قوم، اقبلوا من نبيكم، واجلوا صدأ قلوبكم بالدواء الذي قد وصفه لكم، لو أن بأحدكم مرضا، ووصف بعض الأطباء دواء له، لما أهنأه العيش حتى يستعمله (… )، ومن صحت تبعيته للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ألبسه درعة وخودة، وقلده بسيفه، ونحله من أدبه وشمائله وأخلاقه، وخلع عليه من خلعه، واشتد فرحه به كيف هو في أمته، ويشكر ربه عز وجل على ذلك”[27].

فإجلاء صدأ القلوب، والتخلص من مختلف الرذائل التي تكدر صفاءها، لا يتم إلا بالدواء الذي جاء به الرسول ص. إنه الدواء المتمثل بالتحديد في القرآن الكريم الذي هو “شفاء ورحمة للمؤمنين”[28]. فضلا عن قوله تعالى: “قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور”[29]. وقوله عز وجل: “قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء”[30]. والمتمثل كذلك في اتباع سنة رسول الله. أما إجلاء صدأ القلوب بالمبتدعات والظلاميات، فمجرد أحلام بعيدة عن التحقيق!

إن الشيخ عبد القادر الجيلاني إذن مخلص لربه، مخلص لرسوله بانتهاج نهجه، مما جعل منه شيخا وقورا واعظا يحظى باحترام علماء وفقهاء ومحدثين كبار، مع ما انتقد عليه من اعتماده الأحاديث الضعيفة والمكذوبة في وعظه، وفي مؤلفاته!

فإن كنا نعلم أن الإمام ابن تيمية خصم لدود للمبتدعة الضلاليين من المتصوفة والمتكلمين، والفلاسفة والباطنيين، لزمنا التساؤل عن مصدر احترامه وثنائه كثيرا عليه؟

إن مصدر احترامه وثنائه عليه آت من كونه حريصا أشد الحرص على تجنب المبتدعات، وعلى تجنب العمل بما هو شائع منها في الأوساط الصوفية، وخارج أوساط هؤلاء.

ففي “علم السلوك” من فتاويه يقول: “وكلام الشيوخ الكبار كالشيخ: عبد القادر وغيره، يشير إلى هذا السلوك، ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب، وينهون عما هو مكروه غير محرم، فإنهم يسلكون بالخاصة مسلك الخاصة، وبالعامة مسلك العامة”[31].

ويقول متحدثا عن مشايخ الصوفية ودرجاتهم المتفاوتة في فهم الدين والارتباط بسنن المختار ص: ” فمنهم من هو أعرف من غيره بالأمر الشرعي وأطوع له، فهذا تكون حاله أحسن ممن يقصر عنه في المعرفة بالأمر الشرعي والطاعة له.

ومنهم من يبعد عن الأمر الشرعي، ويسترسل حتى ينسلخ من الإسلام بالكلية، ويبقى واقفا مع هواه والقدر.

ومنهم من يموت كافرا، ومنهم من يتوب الله عليه، ومنهم من يموت فاسقا”[32].

والشيخ عبد القادر ونحوه – كما يقول -: “من أعظم مشايخ زمانهم أمرا بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشايخ أمرا بترك الهوى والإرادة النفسية”[33].

إننا إذن هنا مع الشيخ عبد القادر الجيلاني الحقيقي، أما الشيخ عبد القادر الجيلاني المزيف الذي يدعي البودشيشيون أنهم من أتباعه فنقدم موجزين صورته فيما يلي:

– في “جامع كرامات الأولياء”:

يقول يوسف النبهاني – وهو صوفي ضلالي، في مؤلفه هذا عن الشيخ عبد القادر -: “لما اشتهر أمره في الآفاق، اجتمع مائة فقيه من أذكياء بغداد يمتحنونه في العلم، فجمع كل واحد له مسائل، وجاء إليهم، فلما استقر بهم الجلوس أطرق الشيخ، فظهرت من صدره بارقة من نور، فمرت على صدور المائة، فمحت ما في قلوبهم، فبهتوا واضطربوا وصاحوا صيحة واحدة، ومزقوا ثيابهم، وكشفوا رؤوسهم، ثم صعد الكرسي وأجاب الجميع عما كان عندهم، فاعترفوا بفضله”[34]!

ثم نسب إلى الشيخ عبد القادر قوله: “رافقني الخضر عليه السلام في أول دخولي العراق، وما كنت عرفته، وشرط (علي) أن لا أخالفه، وقال لي: اقعد هنا، فجلست في الموضع الذي أقعدني فيه ثلاث سنين، يأتيني كل سنة مرة ويقول لي: مكانك حتى آتيك. قال: ومكثت سنة في خرائب المدائن. آخذ نفسي بطريق المجاهدات، فآكل المنبوذ ولا أشرب الماء! ومكثت سنة أشرب الماء ولا آكل المنبوذ! وسنة لا آكل ولا أشرب ولا أنام”[35]!

وقال: مرت على مجلسه حدأة فصاحت فشوشت على الحاضرين فقال: يا ريح خذي رأس هذه الحدأة! فوقعت لوقتها في ناحية! ورأسها في ناحية! فنزل الشيخ عن الكرسي وأخذها بيده، ومرر يده الأخرى عليها وقال: باسم الله الرحمان الرحيم، فحييت وطارت”[36]!

– في “الطبقات الكبرى”:

يحكي صاحب هذا الكتاب: عبد الوهاب الشعراني  – وهو بدوره ضلالي ظلامي – عن الشيخ عبد القادر فيقول:

أ- “قيل له مرة. ما لنا لا نرى الذباب يقع على ثيابك؟ فقال: أي شيء يعمل الذباب عندي؟ أنا ما عندي شيء من دبس الدنيا ولا عسل الآخرة”[37]!

ب- وكان يقول: “أيما امرئ مسلم عبر على باب مدرستي، خفف الله عنه العذاب يوم القيامة”[38]!

ج- و”كان رجل يصرخ في قبره ويصيح حتى آذى الناس فأخبروه به فقال: إنه رآني مرة، ولا بد أن الله تعالى يرحمه لأجل ذلك، فمن ذلك الوقت، ما سمع له أحد صراخا”[39]!

إنه كلام من الماضي، يكذب نفسه بنفسه، والشيخ الذي ينسب إليه بريء منه براءة الذئب من دم يوسف! ويحز في النفس، أن يكون – وهو المثقلة أعطافه بالظلام المفترى عليه – هو المتبوع المقصود لدى البودشيشيين، بينما الشيخ عبد القادر الحقيقي في واد وحمزة وأتباعه في واد آخر!

يقول صاحب “ترياق المحبين”: “أخبرني الشيخ الزاهد العارف محمد بن عدنان المشهدي عن الشيخ يوسف أبي زكرياء العسقلاني الحنبلي أنه سئل عن محمد بن علي بن إدريس اليعقوبي أحد أركان طريق القوم، عن الذي يسمع في هذه الأزمنة، وينقل على لسان الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله سره، من الشطوحات والكلمات المشوبة بالعجب والدعوى والتجاوز، وغير ذلك من الألفاظ التي يردها الشرع، مثل قولهم إنه يقول: “قال لي ربي: يا غوث الأعظم، أكل الفقير أكلي”! وقوله للخضر: “إن كنت قلت لموسى: إنك لن تستطيع معي صبرا، فأنت لا تستطيع معي صبرا”! وقوله: “أنا أحفظ مريدي في غيبته وحضوره، ومريدي لا يدخل النار ولو على سبيل مكروه! إن كان مريدي رديا فأنا جيد”! وقوله: “قدمي على رقبة كل ولي لله”! وقوله للميت: “قم بإذني”! وأمثال ذلك وأمثاله منه، وهل هذا صحيح وله وجه عند العارفين؟

فقام منزعجا وجلس ثم قال: جلست مع الشيخ عبد القادر، وأكلت معه، ونمت معه، وسافرت معه، وحضرت معه، فوالله ما رأيته تحرك حركة، ولا سمعته تكلم بكلمة تخالف الشرع الشريف أبدا! الشيخ عبد القادر رجل عارف، عابد زاهد، خائف خاشع، ذو مجاهدة وأوراد وأذكار، كثير البكاء، مخلص واعظ، عالم ورع، عامل بعلمه، له وجود حال، وذوق وكشوفات وكرامات، وأحوال صالحة، وحرمة في قلوب أهل الدين”[40]!

وعندما نتصفح كتاب “الزاوية القادرية عبر التاريخ والعصور” لمؤلفه عبد الحي القادري المغربي، فإننا نجد أن هذا الرجل لم يدخر جهدا في الجمع بين الأخضر واليابس، وذلك لأجل تقديم صورة أخاذة جذابة عن جده وعن الزوايا التابعة له بعد وفاته، كما يقال. فعندما تحدث عن مؤلفات الشيخ وآثاره، عد من بينها “الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية”. ومن حسن حظي أن الكتاب موجود بين يدي، وحينما راجعته، وجدته ينسب إلى جامعه، لا إلى الشيخ عبد القادر كما ادعى عبد الحي القادري!

وبما أن مضمون الكتاب عبارة عن موضوعات مختلفة، أصبحنا أمام احتمالين: أحدهما قوي، وثانيهما ضعيف: احتمال نسبتها كلها إلى الشيخ عبد القادر، واحتمال التمييز فيها بين ما هو له وما هو لغيره، وهذا الغير قد يكون قادري الطريقة، وقد يكون غير ذلك. والاحتمال الأخير هو الذي تميل إليه النفس، ولو أن الشك لم يفارقني قط في كون ما يعتبر منسوبا إليه، لا يبعث على الارتياح! مما يفرض علي إبداء ملاحظتين:

1- أن يكون الشيخ هو الذي أخذ بعض الأذكار المنسوبة إلى غيره كي يشتغل بها وإن لم تكن مسنونة، وسيكون منه اختيار الأذكار المبتدعة استخفافا منه بما يدعو إليه من وجوب العمل بالسنة!

2- أن لا يكون الشيخ هو الذي أدخل تلك الأذكار المشار إليها في إطار ما كان يشتغل به من أذكار مسنونة، بحيث يكون الجناة عليه هم الذين نسبوها إليه. أو ضموها إلى ما قيل إنه من أوراده.

لنقل إذن: إن مضمون “الفيوضات الربانية” يمكن إرجاعه إلى قسمين: ما نسب إلى الشيخ عبد القادر  – مع تحفظي الشديد عليه – وما نسب إلى غيره، فما نسب إليه، أكتفي منه بتقديم نموذج واحد، وما نسب إلى غيره، أعرف به في عجالة.

أ – ما نسب إلى الشيخ عبد القادر:

بعد المدخل الموجز، شرع جامع كتاب “الفيوضات الربانية” في تقديم “الغوثية” المنسوبة – لا شك زورا وبهتانا – إلى الشيخ عبد القادر فقال: “وهذه “الغوثية” هي بطريق الإلهام القلبي والكشف المعنوي”! أي أنها لم تكن من تأليف الشيخ كتأليفه مثلا ل”فتوح الغيب” و”الغنية” و”الفتح الرباني والفيض الرحماني” مما يجعلها تدخل في إطار العلم اللدني، نقصد العلم الذي يتلقاه كبار الأولياء من الحق سبحانه مباشرة بدون ما واسطة.

تقول “الغوثية”: “الحمد لله كاشف الغمة، والصلوات على خير البرية (أما بعد). قال الغوث الأعظم، المستوحش عن غير الله والمستأنس بالله. قال الله تعالى: يا غوث الأعظم! قلت: لبيك يا رب الغوث! قال: كل طور بين الناسوت والملكوت فهو شريعة، وكل طور بين الملكوت والجبروت فهو طريقة، وكل طور بين الجبروت واللاهوت فهو حقيقة! ثم قال: يا غوث الأعظم! ما ظهرت في شيء كظهوري في الإنسان! ثم سألت: يا رب هل لك مكان؟ قال لي: يا غوث الأعظم! أنا مكون المكان وليس لي مكان! ثم سألت: يا رب، هل لك أكل وشرب؟ قال لي: يا غوث الأعظم! أكل الفقير وشربه أكلي وشربي! ثم سألته: يا رب في أي شيء خلقت الملائكة؟ قال لي: يا غوث الأعظم! خلقت الملائكة من نور الإنسان، وخلقت الإنسان من نوري”[41]! إلى آخره.

فماذا نقول عن هذا الظلام الصادر عن الشيخ عبد القادر الجيلاني المزيف الذي يدعي البودشيشيون أنهم من أتباعه؟

إن لم نقف طويلا عند الظلاميات المنسوبة إليه، كمقابلته للخضر! وقضائه ثلاث سنوات بأمره في خراب مهجور بضواحي بغداد! وأكله للمنبوذ طوال هذه السنوات بدون ما تناوله للماء؟ وشربه للماء بدون ما تناوله للمنبوذ سنة؟ وبقائه سنة بدون ما أكل وبدون ما شرب وبدون ما نوم؟ وأمره للريح بقطع رأس حدأة، وكأن الريح خنجر حاد يأتمر بأمره؟ وإحيائه لتلك الحدأة، بعد ان فصلت الريح رأسها عن جسدها؟

أقول: إن لم أقم بتحليل كل هذه الظلاميات المنسوبة إليه، والتي هي عند أتباعه وعند مريديه – وحمزة بن العباس منهم بالتحديد – كرامات مع أنها كلها في الواقع حجج ضده، وضد مروجيها من أتباعه ومن أنصاره، ومن أحفاده الساكتين عن انتقادها واستنكارها، لما يجنون وراء الترويج لها من فوائد مادية ومعنوية! أقول: إن لم أقم بتحليلها فلأنها واضحة ظلاميتها وضوح الشمس! غير أن النص الذي أخذته عن مسمى “الغوثية” يقتضي مني الإدلاء بما يلي:

1 – إن لم يقل نبينا قط، ولا ادعى في يوم ما أنه كان يكلم ربه ويحاوره مثل موسى عليه السلام، ويطرح عليه في جرأة ما بعدها جرأة مجموعة من الأسئلة الغريبة والمخجلة والوقحة في الآن ذاته! فها هو ذا حفيذ من حفدته يكلم الله ويحاوره ويستفتيه أو يستفهمه! وكأن أحفاده ص مكتوب عليهم مخالفة أمره ونهيه، بحيث إننا وجدناهم على رأس أكثر من طريقة صوفية ضلالية. فالتجاني شريف كما يدعي! والعربي الدرقاوي شريف كما يدعي! وحمزة بن العباس شريف كما يدعي! ورجال السند الأول عنده على العموم شرفاء! بما فيهم محمد بن محمد كذلك بن محمد! فهل هو تخطيط مدروس لربط الفكر الظلامي بآل البيت النبوي كقادة له، إلى حد أن الوزير البودشيشي المسؤول عن الأوقاف وشؤون الإسلام، وقع اختياره   – كموضوع لأول درس رمضاني له أمام ملك البلاد  – على “النسب الشريف والسند الصوفي”؟ أو لم يكن يرمي إلى الربط المباشر بين نسب الأسرة الحاكمة وبين رجال السند البودشيشي الأول! في محاولة منه تبدو غير ذكية، وغير موفقة للقول بأن “الزمني” و”الروحي” متجانسان ومتناغمان لدى الحكام الشرفاء بالتحديد! منذ عهد الأدارسة حتى الآن؟ يعني أن وجودهم كمربين صوفيين، ووراءهم آلاف المريدين والأتباع، يقابله بالمثل وجودهم كحكام، وراءهم ألوف من الجماهير الممثلة لكل الفئات ولكل الطبقات الاجتماعية بالمغرب القديم والجديد؟ بحيث يكون الوزير باندفاعه الولائي قد ابتعد عن سبيل الإحسان من حيث لا يدري، إلى سبيل الإساءة، ربما عن جهل! وربما عن حسن نية! وربما عن تجاهل! إذ لا أرضى شخصيا كمؤمن يحب الله ورسوله أن يكون أحفاده ص ممن يسيئون إلى سنته! وبالتالي من المروجين للفكر الظلامي البدعي عقلا ودينا وتجربة!

2 – إن الشيخ عبد القادر في النص يحاور ربه بصفته “الغوث الأعظم”! ومن كانت هذه صفته، فليعلن صراحة بأنه أفضل من ربه! بينما نعلن نحن بأنه رجل جاهل غبي زنديق فاسق! لا يصلح قدوة لأي كان! فالله سبحانه يعبد بالعلم لا بالجهل!

3 – إن الثلاثي الذي طالما روج له الصوفية حاضر في قوله تعالى كذبا وزورا للشيخ عبد القادر: “كل طور بين الناسوت والملكوت فهو شريعة! وكل طور بين الملكوت والجبروت فهو طريقة! وكل طور بين الجبروت واللاهوت فهو حقيقة”!

فإن كان “الطور” لغويا هو الحد الفاصل بن شيئين، مع أنه يربط بينهما، فإن الشريعة كما يدعي المتصوفة، أو كما قال الله تعالى للشيخ عبد القادر المزيف المفترى عليه: طور بين الناسوت والملكوت! يعني بين عالم الحس الذي ينتمي إليه الإنسان، وبين عالم الأمر أو الغيب الذي يستأثر الله تعالى وحده بعلمه. فالشريعة التي نختصرها في الرسالة المحمدية الخاتمة من الله إلى الإنسان طور أو حد رابط بينه وبينه سبحانه!

أما الطريقة فطور بين الملكوت والجبروت (كما قال عز وجل)! يعني بين عالم الأمر (= أمر الله وغيبه) وبين عالم أسمائه وصفاته! والطريقة المقصودة هنا هي التي عليها المتصوفة! إلا أننا معهم أمام طرق عدة  للأسف الشديد، فضلا عن كون هذه الطرق جميعها ضلالية مبتدعة!

فقوله تعالى: “وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا”[42] يعني السبيل المستقيم الذي عليه الرسول وأصحابه والمقتدون به، لا سبيل الضلاليين الأفاكين! ثم إن ربط الطريقة التي عليها المتصوفة بعالم الغيب، وبعالم الأسماء والصفات – إن نحن سلمنا بوجود هذين العالمين منفصلين – ربط غير مفهوم. فالله الواحد في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته وفي أفعاله، هو مصدر الشريعة! أو ليس هو الذي أوحى بها إلى نبيه ص؟ ثم إنه تعالى في الوقت ذاته مصدر الطريقة أو الصراط المستقيم. أما الطرق الجانبية المتفرعة عن يمين هذا الصراط المستقيم وعن شماله كرموز وكإشارات للمغالاة والتطرف، إما بالإفراط وإما بالتفريط، فعلى كل منها شيطان يدعو إليها كما هو وارد في حديث من أحاديثه ص!

في حين أن الحقيقة الموجودة بين طور الجبروت واللاهوت، أي بين الأسماء والصفات، وبين مصدر المعاني والدلالات الذي هو الله، لا يمكن إلا القبول بأنها منه سبحانه! فالحقيقية الدينية إن شئنا هي مجموع الشريعة والطريقة، وبما أن الشريعة التي نزلت على الرسول ص، فبلغها وشرحها، لا يمكن وصفها إلا بالحقيقة، وبما أن هذه الحقيقة تشمل الطريقة من ضمن ما تشمله، فلنقل ببساطة: إن الشريعة والطريقة والحقيقة في المجال الديني السليم، لا الموبوء بظلاميات المتصوفة، مصدرها الله تعالى وحده، بحيث نصل في النهاية إلى أن الشريعة حقيقة صادرة عن الله! وإلى أن الطريقة حقيقة صادرة عنه سبحانه! مع التأكيد فورا على أن الحقيقة التي نعنيها، غير الحقيقة التي يعنيها الظلاميون من مشايخ الطرق كمحتوى “الغوثية” وجوانب ضبابية في كل من “جواهر المعاني” و”الإبريز” على سبيل المثال لا الحصر! ومع التأكيد على أن الطريقة التي نقصدها والتي علينا كمسلمين اتباعها، لا اتباع غيرها هي الصراط المستقيم الذي عليه الرسول والصحابة والتابعون وكبار الأئمة المجتهدين في الفقه، وكبار الأئمة المجتهدين في تدوين الحديث وجمعه والدب عنه. لا الطريقة الدرقاوية، والتجانية، والعيساوية، والحمدوشية، والغزوانية، والكتانية، والبودشيشية!

أما هدف الشيخ عبد القادر المزيف لا الحقيقي، فهو الحصول من الله مباشرة على مشروعية التمييز بين “الشريعة” و”الطريقة” و”الحقيقة” من منظور صوفي لا عقلاني مدهلم السواد، مع التأكيد على أن “الحقيقة” بالتحديد     لدى الصوفية، هي الأسرار، والعلوم اللدنية، التي زعم ابن عربي – كما تقدم – أن الولي يتفوق بها على النبي ذاته! لأن الشريعة يتم الحصول عليها بواسطة تلقيها من معلمين أو من أساتذة، فقهاء كانوا أو محدثين. في حين أن الحقيقة الصوفية المزعومة يتم الحصول عليها من الله عز وجل بدون ما واسطة تذكر! ويحسب الصوفيون الضلاليون أنهم بالتقسيم الثلاثي الذي قولوا الله به في “الغوثية” أدركوا من المعارف ما عجز من سواهم عن إدراكه، دون أن يفطنوا، لا عن بعد ولا عن قرب، إلى الغباء الذي يتصفون به! فقد نسوا أن “الشريعة” حقيقة! وأن “الطريقة” حقيقة! وأن “الحقيقة” التي يدعون امتلاكها لا توجد عارية  مجردة في الهواء الطلق ! فالشجر حقيقة لا وهم! والظل حقيقة! والليل حقيقة! والله ذاته هو الحق المبين!

ب- ما نسب إلى غير الشيخ عبد القادر:

لا نستطيع الجزم بتاتا بأن الأذكار والأدعية وما إليها من مضامين “الفيوضات الربانية” منسوبة كلها إلى الشيخ عبد القادر، وأنها من وضعه، ف”خطاب الحق”، يعني “الغوثية”، نسبه إليه لا شك جامع “الفيوضات”! أو نقله عمن نسبه إليه! كما نسب بعض الأذكار فعلا إلى أصحابها، ليسكت عن باقي مضامين الكتاب. ومن بين ما نسبه إلى غيره – وإن كان من أوراد القادريين – ما يلي:

1- المسبعات العشر: وهي كما سبق الذكر، منسوبة زورا وكذ  با إلى الرسول ص، تلقاها عنه الخضر (والخضر خرافة)! وعنه تلقاها إبراهيم التيمي عند فناء الكعبة! فيكون القادريون المشتغلون بها مصدقين بوجود الخضر حيا  – والتصديق بوجوده حيا نقطة سوداء في ملف جميع المصدقين به – وبأنه واسطة بين الرسول والمتصوفة. وأنه (أي الخضر) كما قال ص افتراء عليه: أعلم أهل الأرض،،، إلى آخره! مما نتأكد معه أن القادريين فعلا متعلقون بالموضوعات والمبتدعات. مؤمنون بالخرافات والأباطيل والأضاليل والترهات!

2- حزب البحر: من أذكار القادريين، وواضعه أبو الحسن الشاذلي، أحد أعمدة الطريقة الدرقاوية لأنها شاذلية كما يدعي أصحابها، وهذا الحزب قصته قصة ظلامية، تم لنا كشف الغطاء عنها في حينه. نقصد ادعاء الشاذلي بأن المختار هو الذي أملى عليه الحزب المذكور قبله!

3- دعاء معروف الكرخي: وهو دعاء أورده الغزالي في “الإحياء” تحت عنوان “في أدعية مأثورة ومعزية إلى أسبابها وأربابها مما يستحب أن يدعو بها المرء صباحا ومساء وبعقب كل صلاة”[43]! ولا داعي هنا للتعليق! وإلا ففي الأدعية المرفوعة إليه ص كفاية لمن له رغبة في تحصيل خيري الدنيا والآخرة!

4- في كيفية حزب الإمام حجة الإسلام الغزالي وذكر بعض خواصه.

مما يؤكد لنا مدى ارتباط القادرية البودشيشية بما نسب إلى الشيخ عبد القادر المزيف من مقالات لا تربطه بها أدنى صلة! ومما يؤكد رغبتها في مسمى التلقيح والتلاقح! حتى لو كلفها التلاقح المفترض ما كلفها من تهافت على ركام من الظلام والضلال البدعيين! والحال أن تلقيح مبتدع بمبتدع غيره، لا ينتج عنه غير ظلاميات بعضها فوق بعض! وذلك في إشارة منا إلى الجمع بين الظلام التجاني والظلام الدرقاوي والظلام القادري في مسمى “القادرية البودشيشية”! خاصة وأن الزواج الشرعي ليس هو الزواج عن طريق الزنا! أو عن طريق الاغتصاب! أو عن طريق السفاح! إذ لا ينتج عن هذا الأخير غير لقطاء، أو أبناء لا شرعيين. وإن شئنا قلنا لا ينتج عنه غير أبناء الحرام!

ولمزيد من المعلومات عن مسمى “القادرية البودشيشية” والمتعلقة خاصة بأورادها وأذكارها ووظائفها وأدبياتها. يراجع كتاب “مساهمة في البحث عن زوايا بني يزناسن” لأحمد الغزالي. إذ في مراجعته لمن يرغب فيها فائدتان:

         الفائدة الأولى: تتمثل في عدم إثبات صاحب الكتاب لما كان يشتغل به الشيخ عبد القادر من أذكار! وفي عدم إثبات كونه يعقد جلسات للذكر الجماعي وقوفا، مع الشطح الذي يرافق الأذكار لدى البودشيشيين الذين يدعون الانتساب إليه أو إلى طريقته! فضلا عن كونه لم يثبت كيف أن القادري كان على علم بمسمى “الحضرة” أو “العمارة”!

فقد اكتفى بالتحدث عن الطريقة القادرية وتأسيسها بالمشرق، وعن دخول القادري بغداد، وعن دراسته وعن علاقته ببعض شيوخه، وعن شيخه وعمدته في الطريقة الصوفية، وعن صفته ولباسه وأخلاقه وعن كراماته. وأخيرا عن وصيته لأولاده قبل وفاته.

لكنه تحدث بعد ذلك عن أوراد الشيخ العباس وأحزابه فقال: “تعتمد الطرق الصوفية على أنواع من الأوراد والأدعية والأحزاب (الوظيفة أو الأذكار الجماعية). وبالنظر إلى الطريقة القادرية البودشيشية في زمن الشيخ العباس نلاحظ تنوعها. فهي تعتمد على الأوراد القادرية (أية أوراد؟) والشاذلية (أية أوراد؟) في نفس الوقت. لكن المعتمد فيها هو:

– الاستغفار بصيغة (أستغفر الله العظيم مائة مرة صباحا ومساء)

– الهلالة: لا إله إلا الله بعدد كبير. المفضل أن يفوق خمسة عشرة ألف مرة.

– الاسم المفرد (الله) للمتمرسين القدماء فقط.

– الصلاة على النبي ص بصيغة: “اللهم صل على سيدنا محمد الذي ملأت قبله من جلالك وعينه من جمالك، فأصبح فرحا مؤيدا منصورا، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. والحمد لله على ذلك”. مائة مرة صباحا ومساء.

    ورد الخواص:

– الاسم المفرد (الله) بدون حصر.

– اللطيف المعروف بلطيف ابن حجر الهيثمي. وصيغته: “يا لطيف”. 4444 مرة.

– الدعاء المتعلق به (وهو): “اللهم لا فرج إلا فرجك. فرج عنا كل هم وغم وكرب وشدة. يا من بيده مفاتيح الفرج، اكفني شر من يريد أن يضرنا من إنس وجان وباغ وحاسد. وادفعهم عنا بيدك القوية إنه على كل شيء قدير” 70 مرة.

– يا قوي يا عزيز 400 مرة.

– يا حي يا قيوم 1000 مرة.

– حزب النصر للشيخ عبد القادر.

    الحزب أو الوظيفة: الذكر الجماعي.

بعد صلاة المغرب تعقد مجالس الذكر، يتلى فيها ما تيسر من القرآن، وخاصة سورة “الفتح” إلى قوله تعالى: “لقد رضي”.

– سورة “الفاتحة” 10 مرات.

– يا لطيف 100 مرة.

– لا إله إلا الله 100 مرة.

– حسبنا الله ونعم الوكيل 100 مرة.

– الله 100 مرة.

– هو هو 100 مرة.

– سورة “الواقعة”.

– الدعاء.

– الدرس التوجيهي المتعلق بالسلوك الصوفي أو المسائل الشرعية التعبدية.

– القصائد الصوفية والأمداح النبوية وهي متنوعة المواضيع[44].

         الفائدة الثانية: تتمثل في اعتماد المؤلف (الباحث!) أحمد الغزالي في بعض مما قاله عن الشيخ عبد القادر الجيلاني على “الزاوية القادرية عبر التاريخ والعصور” المتقدم ذكره. وهو كتاب طويل عريض. لا إشارة فيه لأوراد الشيخ عبد القادر. ولا لأوقات ولا لكيفيات أدائها. كما أنه لا إشارة فيه للتمييز بين الأوراد الخاصة والأوراد العامة. ولا إشارة فيه، لا للأحزاب، ولا للوظائف ولا للعمارة ولا للشطح! فمن أين جاء البودشيشيون إذن بما يشتغلون به من أذكار على العموم؟

ادعى أحمد الغزالي أن الطريقة التي يمتدحها ويمتدح شيوخها “تعتمد على الأوراد القادرية والشاذلية في نفس الوقت”[45] غير أننا – للأسف الشديد – لا نستطيع التمييز فيها جيدا – كما قدمها – بين ما هو “قادري” وبين ما هو “شاذلي” وبين ما هو “درقاوي” وبين ما هو “تجاني” على اعتبار الوارد في السند الثالث للبودشيشية! وفي الوقت ذاته، لا نستطيع تصديق ما ادعاه. فالأوراد التي ساقها لم تكن كلها “قادرية” ولا”شاذلية” ولا “درقاوية” ولا “تجانية”! فضلا عن كون بعضها ضلالي ظلامي. تعلق الأمر بصيغها، أو تعلق بكيفية أدائها! وأدلتنا على ما اقتنعنا به، نوجزها في الآتي:

1-الاستغفار مطلوب بنصوص قرآنية وبأخرى حديثية. إنه إذن في حد ذاته ذكر غير مبتدع. ولكن اعتماد صيغ غير مسنونة منه لأدائه، أي للاستغفار بدعة بعينها.

فعن نافع عن ابن عمر قوله: “إن كنا لنعد لرسول الله ص في المجلس الواحد مائة مرة يقول: “ربي اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم”[46].

وعن خباب بن الأرت قوله: قلت يا رسول الله كيف نستغفر؟ قال: قل: “اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب        – وذكر كلمة معناها علينا – إنك أنت التواب الرحيم”[47]!

فعندما نزل عليه ص قوله تعالى: “إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما”[48]. طلب منه الصحابة تعليمهم كيفية الصلاة عليه. فأملى عليهم “الصلاة الإبراهيمية” المعروفة. فضلا عن كون المؤمن يبحث عن الأفضل. أقصد صيغا لأذكار ربطها الله ورسوله بثواب جزيل هو من نصيب المشتغل أو المتعبد بها. فهناك سيد الاستغفار وثواب من استعمله.

فعن شداد بن أوس قوله: قال رسول الله ص: “إن سيد الاستغفار، أن يقول العبد: لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. فإن قالها حين يصبح موقنا بها فمات دخل الجنة. وإن قالها حين يمسي موقنا بها فمات دخل الجنة”[49]!

والمؤمن المخلص الصادق هو الحريص أيما حرص على تمثل مضمون قول الله عز وجل مخاطبا نبيه: “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم”[50]. مع الاعتقاد الراسخ واليقين التام بأن البيان هو نفسه سننه ص. وسننه إنما هي أقواله وأفعاله وتقريراته. ومن رغب في التقرب إلى الحق سبحانه ونيل مرضاته فلا بد له من الاقتداء بسيد الناس. وابتكار وابتداع أذكار بعينها مع الاشتغال بها – والحال أن نظائرها المسنونة موجودة   – لا يضمن التقرب إلى الله في ظرف وجيز. كما لا يضمن نيل رضاه أو مرضاته عز وجل!

2- الهلالة – كما سماها المؤلف – وهي “لا إله إلا الله” ذكر مرتبط بقوله ص: “أفضل ما قلته أنا والنبيئون من قبلي: لا إله إلا الله”[51]. غير أن تكرارها جماعة في مسمى “مجلس ذكر” أو في مسمى “عمارة” مع حصر عددها في ألف مرة فأكثر، عمل غير مسنون. وإنما هو عمل مبتدع محدث. والمؤمنون مطلوبون باتباع المسنون لا غيره. فضلا عن كونه ص لم يحدد أعداد تكرار لفظ “الشهادة”، ولا كررها جماعة. ولا صح أن الشيخ عبد القادر الجيلاني كان يتعبد بها على هيأة الاجتماع. ومن ادعى هذا أوذاك أو هما مع فليقدم لنا من الحجج ما لديه؟

3- الاسم المفرد “الله”: يتعبد به الفرد وحده، كما تتعبد به الجماعة. لكن التعبد به بدعة سبق لنا شرحها بوضوح تام.

4- الصلاة على النبي ص بصيغة “اللهم صل على سيدنا محمد الذي ملأت قلبه من جلالك، وعينه من جمالك… إلى آخره، صيغة أخذها البودشيشيون من “دلائل الخيرات” للظلامي الجزولي الذي وقفنا على ظلامياته! مما يؤكد بأنهم – ككل الطرقيين – يفضلون الأخذ عن الضلاليين عوضا عن الأخذ عن الله وعن رسوله! فإن قيل لهم: قال الله وقال الرسول. قالوا: “قال الشيخ الفلاني”!

5- اللطيف المعروف بلطيف ابن حجر الهيتمي 4444 مرة مع الدعاء المتعلق به، ذكر آخر ضلالي مصدره شيخ صوفي لا الكتاب والسنة! مما يدفعنا إلى التساؤل مرة أخرى:

هل نحن مطالبون باتباع الكتاب والسنة؟ أم نحن مطالبون باتباع الرجال وأقوال الرجال، وكأننا غير راضين بوجوب الاقتداء بنبينا كأمر رباني موجه إلينا في أكثر من سورة قرآنية؟

فضلا عن كون “يا لطيف” ليس ذكرا على الإطلاق! إنه مجرد نداء، لا جملة مفيدة، والله تعالى يعبد بما هو واضح لا بما هو غامض! وإلا فما الفائدة من “ياء النداء” والمنادى عليه، دون الإفصاح عن رغبة المنادي بالتحديد؟ ولنقرأ – على سبيل المثال – قوله تعالى: “يا زكرياء إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى”[52]!

6- وما قيل عن “يا لطيف” يقال عن “يا قوي. يا عزيز. يا حي. يا قيوم”!

7- أما “حزب النصر” فيظهر أنه الذكر الوحيد المأخوذ عن الشيخ عبد القادر. إنه من ضمن محتوى “الفيوضات الربانية”. لكننا نحن هنا بخصوصه أمام مشكلتين: عدم التأكد من صحة نسبته إليه! واعتماده كغيره من الأذكار المبتدعة التي طالما أدت بالمتصوفة إلى الابتعاد عن المسنونات!

8- أما بدعيات الذكر الجماعي الذي تعقد له مجالس بعد صلاة المغرب، فتتمثل في قراءة سورة “الفاتحة” عشر مرات. و”يا لطيف” مائة مرة. و”لا إله إلا الله” مائة مرة. و”حسبنا الله ونعم الوكيل” مائة مرة. والاسم المفرد “الله” مائة مرة. و”هو هو” مائة مرة. كل ذلك كما قلنا بصوت جماعي واحد ضلالي مبتدع! بغض النظر عن الشطح ونتائجه التي تحمل من بين ما تحمله ما يضحك وما يبكي!!! وبغض النظر عن القصائد الصوفية التي طالما قدم أصحابها نماذج من الفكر الظلامي الشنيع كفعل البوصيري في بردته. وكفعل ابن الفارض في ديوانه. ومن جملة ما فيه، تائيته التي يرددها الصوفية في مختلف العصور. فإن كان البودشيشيون يشتغلون بقصائد ابن الفارض[53]. فإنهم لا شك مثل غيرهم من الطرقيين، يشتغلون بتائيته التي تنطق بالضلال وبالظلام البدعيين نظير قوله:

ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها        وذاتي بذاتي إذ تحلت تجلت

و”الصحو في دين الصوفية هو رجوع العارف إلى الإحساس بعد سكرته بوارد قوي، وفيه يشهد العارف المغيرة بين الذات الإلهية ومظاهرها أو صفاتها، يشهد أن الكون ليس هو الذات الإلهية، وإنما هو تجليات أسمائها وصفاتها ومجال لأفعالها. أما المحو في دينها فهو إمحاء الكثرة والغيرية، والخلقية المتنوعة المتعددة. وفناء السوية، وتجلي الوحدة المطلقة، فيرى الصوفي الخلق عين الحق، والمربوب عين الرب”[54]!

نقول بدون ما دخول في التفاصيل أكثر: إن البدعيات على المستويين: النظري والتطبيقي، هي عنوان طريقة لم يفطن حكامنا وعلماؤنا، ومثقفونا المنتمون إليها بعد إلى أنها خطر على الإسلام الحق النظيف، الذي حذر الله ورسوله من تشويهه، أو حتى من تلويثه بظلاميات، تمثل تكرارا حيا لما لحق الديانتين: اليهودية والنصرانية من تحريف، أبرز الإسلام خطره بما يكفي من البراهين. كما تولى أحد فلاسفة عصر الأنوار من حيث يدري، أو من حيث لا يدري، تأكيد ما وجهه النظم الكريم بالذات لليهود وللنصارى من انتقادات، قمتها موجودة في الشرك! بغض النظر عن بقية الظلاميات الكهنوتية التي أدت بأوربا إلى الدخول في عصر الظلمات الحالكة لعدة قرون!

فكيف إذن تروج الدولة نفسها ومعها مغفلون، ومعها ساكتون، ومعها علماء، ومعها طرقيون، كيف تروج لفرق ضلالية ضلالها أوبدعياتها واضحة للعيان ؟

في صدر جريدة “الأسبوع الصحفي ليوم 21 أبريل 2006م، نقرأ أولا هذا العنوان: “السفير الأمريكي في الحضرة البودشيشية”! وتحته مباشرة نقرأ: “وضوح الرؤيا في المساندة الأمريكية لسياسة الطرق الصوفية“!

ثم نقرأ تحت العنوانين: الأصلي والفرعي ما يلي: “ليلة صوفية اهتزت فيها أعطاف السفير الأمريكي رايلي وزوجته! وارتجت فيها من فرط النشوة الربانية مشاعر زعيم الاتحاد الاشتراكي محمد اليازغي!!! وجمعت حشدا من رواد الصوفية البودشيشية التي أقامت ليلة حضرتها في قصر التازي مساء الجمعة الماضي! قام بعدها ولد الشيخ حمزة جمال، باستقبال السفير الأمريكي، بطريقة لا تخلو من بروطوكولية.

الأسبوع كانت هناك، ونقلت لكم مشاهد هذه الحضرة البودشيشية التي يتصدرها السفير الأمريكي! (انظر في الصفحة التاسعة تفاصيل الحفل الخيري الذي أقيم في مداغ”!

جاء في الصفحة التاسعة ما يلي: “حل المغني المجدد نعمان لحلو ضيفا على الطريقة البودشيشية، في منطقة مداغ ببركان، بمناسبة الاحتفالات بالمولد النبوي. وقال عضو من هذه الطريقة، بأن نعمان لحلو أصبح واحدا من مريدي هذه الزاوية، بعد ما التقى بشيخ الطريقة حمزة بن العباس، وكان حاضرا معه أثناء استقبال الوفود التي حلت من مختلف أنحاء المغرب وبقاع العالم لحضور هذه الاحتفالات! كما حضر نعمان الليلة التي أقامها البودشيشيون في قصر التازي بالرباط.

فقد حضر أتباع الطريقة الذين أعلنوا إسلامهم، من أوربا وآسيا والصين وتايلاند والسعودية وقطر، وأمريكا، وإفريقيا، كلهم رددوا الأوراد والأذكار مع أتباع الطريقة، وتعهدوا بنشر الطريقة الصوفية البودشيشية في بلدانهم، وإقامة فروع للزاوية هناك.

وقدر ملاحظون عدد أتباع الطريقة، الذين حضروا الاحتفالات بالآلاف، حيث وصل ما يزيد عن 300 حافلة، و 1400 سيارة. وهي أعداد تعجز أكبر الأحزاب عن استقطابها أو تحريكها، على الأقل في مختلف أنشطتها. وقد تحولت هذه الاحتفالات إلى موسم سنوي، تحضره السلطات المحلية ( … ) في شخص عامل الإقليم، الذي كان مرفوقا بمعاونيه وأعيان المنطقة، وهي إشارات إلى أن الدولة راضية على تنامي وتوسع هذه الطريقة، التي ينتمي إليها وزير الأوقاف أحمد التوفيق! وكان الوزير ولعلو ورفيقه اليازغي قد زاروا هم كذلك الشيخ حمزة!

وتميزت احتفالات هذه السنة بحضور كثيف للصحافة الوطنية والدولية، من خلال المراسلين الصحفيين، ووفود من قناة الجزيرة، وأبو ظبي، والقناة الفرنسية (ت ف 5 ) ورويترز،بالإضافة إلى قناة دوزيم والإتم”[55]!

فإن اهتزت أعطاف السفير الأمريكي في ليلة صوفية بودشيشية ظلامية لحاجة في نفس يعقوب تعني القضاء على مسمى “الإسلام الحار” الذي هو مقابل “الإسلام البارد”الظلامي المنحرف! فإن اهتزاز الأعطاف، وحتى النهود والأرداف، يحدث له ولمن سواه في ليال وبليال طالما وصفت بالحمراء! وإن ارتجت فيها من فرط النشوة الربانية مشاعر زعيم الاتحاد الاشتراكي محمد اليازغي العقلاني التقدمي الديمقراطي!فإن ارتجاج مشاعره بأكثر من دافع ديني. أو بأكثر من باعث صوفي. قد يدل، وقد لا يدل على تحول في الخطاب الموجه من طرفه ومن طرف المناضلين من حزبه إلى الإسلاميين الموصوفين اعتباطيا ب”الظلاميين”! وإن كان اليازغي وفتح الله ولعلو كوزيرين معارضين “أيام زمان”! قد زارا حمزة بن العباس المتزعم لطائفة مرفوضة عقلا ودينا وتجربة محسوسة، بحجج لن تستطيع الردود الانفعالية المعروفة لدى الصوفية إلغاءها، أو دحضها بجرة قلم سلطوي غاضب! أو حتى بجرة قلم أو خطاب علماء الدنيا المسخرين المدجنين! فإنهما (أي الوزيرين) لا شك مهتمان بوجوب احترام وتقديس مصدر من مصادر ما يصح وصفه بالقوة المخزنية الضرورية للبقاء والاستمرار! ما داما قد تخلصا منذ سنوات من تعب الإبحار الذي أبعدهما مضطرين أو مختارين عن المأدبة الحافلة بالجاه والسلطة والنفوذ والمال!

وإن وفد أتباع الطريقة المعجبون بشيخ “مداغ” من المغاربة والأجانب على مقر إقامة صاحب البركات والكرامات. فلأنهم مخدوعون مجرورون وإن كانوا صادقين! وإلا فبإمكانهم مع اعتماد الشك المنهجي، أن يدركوا في ظرف وجيز كيف أنهم يجرون وراء مجرد سراب! حتى إذا ما اقتربوا منه فإنهم لن يجدوه شيئا ذا بال يصح الإمساك به!

بعدها نصل إلى أن كل ما حصل، وإلى أن كل ما سوف يحصل، إن في الحال وإن في الاستقبال. إن في القريب وإن في البعيد. لا يعني أن الرجل البودشيشي المزور على النهج القويم لديننا الحنيف يسير! فقد حكم الله ورسوله منذ قرون وقرون عليه وعلى أمثاله بالبوار!

ولنذكر ها هنا بالمناسبة تحريف كل من اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل! فكان أن أصبحنا أمام “التلمود” و”الكهنوت”! يعني أننا أصبحنا أمام المغالاة التي أفرخت ظلاميات عرفتها الأديرة والكنائس والكاتدرائيات! وكان أن نجح مرجو الظلاميات تلك في استقطاب ملايين الأوربيين وغير الأوربيين! مما يعني أن “الظلام” باسم “النور” يمكن نشره في أي مكان ومن أي طرف، ومن أي شخص كان! وهو نفس ما حدث في العالم الإسلامي منذ أزمان ولا يزال يحدث! يعني أن “الظلاميين” أصبحوا “نورانيين” وأن “النورانيين” أصبحوا “ظلاميين”! أو لم يقل الغزالي في “المنقذ من الظلال” بأن الحق لا يوجد إلا لدى الصوفية؟ أما غيرهم من بقية الجماعات والأفراد والفرق الإسلامية، فلا يملك غير الباطل؟ وهي نفس القناعة التي وضع عليها رأس “جماعة العدل والإحسان” المتخرج من المدرسة البودشيشية الضلالية إبهامه!

إن التجاني الضلالي الظلامي الزنديق المفتري الكافر الجزائري – المغربي. أصبح له في عالم الأمس وفي عالم اليوم بالتدريج وأحيانا بسرعة ملايين الأتباع الأغبياء المغفلين المخدوعين! ولو أنه  – كما أوضحنا لمرات – على ضلال مبين!

مما يدل على أن الإسلام الذي يقف وراءه مبتدعون صوفيون، إسلام منحرف مصنوع متضعضع. مرفوض بأكثر من دليل نقلي! وبأكثر من دليل عقلي! وبأكثر من دليل تجريبي! وإلا فهل أصحاب الأضرحة المقدسون المزورون في قبورهم أحياء يرزقون، كمعتقد صوفي مبتدع مدعوم موضوع من قبل المشايخ المتطرفين الجاهلين؟ وهل بإمكانهم        – كأولياء مقدسين – التواصل مع الأحياء من زوارهم الذين تم تطعيمهم بلقاح ظلامي مميت من إنتاج شيوخ الطرق الضلالية ومقدميها ومريديها من أتباع تشبعوا قبل غيرهم بالمكر والخداع والأباطيل!

وحتى إن لم يكن الزعيم الهندي الذائع الصيت: الماهاتما غاندي، مسلما موحدا مؤمنا بالله وبرسوله محمد بن عبد الله الذي هو رسول مبين للناس كافة. فإنه بتقشفه. وبتواضعه. وبزهده. وبأخلاقه السامية. وبصبره وجلده وتحمله. وبمذهب “اللاعنف” الذي رفعه في وجه المحتلين الأنجليز حتى يرغمهم على الجلاء عن بلده. استطاع حشد ملايين الأتباع والمعجبين داخل الهند وخارجها.

مما يعني أن رأس الطريقة البودشيشية – وإن لم يكن على نهج سيد الناس يسير – قد أفلح واقعيا في جذب أو جلب الألوف إليه! مثله مثل القديسين من رهبان وقساوسة وأساقفة وبطارقة وباباوات!

وهذا يدل على أن هناك فرقا بين من يقتات ما هو ألذ من عسل النحل! إنه الزاد الذي هو في “هدي خير العباد”! وبين من يقتات ما هو أمر من ثمار الحنظل! إنه الظلاميات والضلاليات المتولدة تباعا، لا عن انتهاج صراط الله المستقيم! وإنما عن انتهاج طرق الشيطان الرجيم! خاصة وأن العبرة   – كما يقال – بالخواتم! والخواتم هنا لن تدرك لدى الخادعين والمخدوعين كاملة غير منقوصة، إلا عند مساءلة الحق سبحانه يوم القيامة أو يوم الحساب، كل عالم أو كل شيخ أو كل فقيه، وكل مقتد بعالم جاهل، أو بشيخ زنديق، أو بفقيه، أخراه باعها بدنيا من خدمهم من حكام وسلاطين ورؤساء وأثرياء!!!

يكفي أن نورد هنا بعضا مما يمكن اعتباره موعظة وذكرى لقوم مؤمنين.

ففي “المائدة” نتلو مرتلين ما يلي: “وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءآنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله. قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق. إن كنت قلته فقد علمته. تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك. إنك أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم. وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم. فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم. وأنت على كل شيء شهيد”[56].

فإن صح أن عيسى عليه السلام، قد تبرأ جهارا أمام ربه ممن حرفوا ما نزل عليه. فإن نبينا لم يكن يرضى في حياته – وهو يبلغ عن ربه – أن يتعرض ما جاء به لأي انحراف. فكان من جملة ما قاله ص: “من رغب عن سنتي فليس مني” أي أنني بريء منه في الدنيا والآخرة! فضلا عن قوله ص: “من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”[57]! والمفترون عليه من المشايخ كثر! وما قدمناه من براهين مؤيدة لما ندعيه، يغنينا الآن عن تقديم المزيد! يكفي التأكيد على أن النبي ص بريء من المبتدعين الضلاليين! وعلى أنه لم ير لهم كمبتدعين مفترين عليه وعلى ربه غير مصير مظلم مخيف مرعب!

 

[1] – سورة الحج: 26.

[2] – رياض الصالحين. ص 177-178. الإمام أبو زكرياء يحيى النووي. دار الفكر. بدون تاريخ.

[3] – سورة البقرة: 272

[4] – سورة الحشر: 8.

[5] – الإسلام أو الطوفان. ص 5-6.

[6] – العمل الديني وتجديد العقل. ص 5. الدكتور طه عبد الرحمان. الطبعة الأولى 1989م.

[7] – سورة البقرة: 257.

[8] – سورة النور: 35.

[9] – سورة إبراهيم: 1.

[10] – سورة إبراهيم: 5.

[11] – الجامع الصغير. 2/352. رقم الحديث 5705.

[12] – ن.م. 2/351. رقم الحديث 5701.

[13] – سورة النحل: 43.

[14] – الرسالة القشيرية. ص 391.

[15] – ن.م. ص 395.

[16] – الرسالة القشيرية. ص 408.

[17] – سورة النور: 54.

[18] – الرسالة القشيرية. ص 410.

[19] – مساهمة في البحث عن زوايا بني يزناسن. القادرية البودشيشية نموذجا. ص 49. أحمد الغزالي.

[20] – ن.م. ص 49-50.

[21] – مساهمة في البحث عن بني يزناسن. ص 50-51.

[22] – ن.م. ص 51.

[23] – إحياء علوم الدين 3/75-76.

[24] – الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية. ص 16.

[25] – البداية والنهاية. 12/252. أبو الفداء الحافظ ابن كثير. دار الفكر بيروت. طبعة جديدة منقحة. 1398ه – 1978م.

[26] – الفتح الرباني والفيض الرحماني. ص 51. عبد القادر الجيلاني. بدون تاريخ.

[27] – ن.م. ص 82-83.

[28] – سورة الإسراء: 82.

[29] – سورة يونس: 57.

[30] – سورة فصلت: 44.

[31] – فتاوى ابن تيمية. 10/463.

[32] – فتاوى ابن تيمية. 10/484.

[33] – ن.م. 10/488.

[34] – جامع كرامات الأولياء. 2/201. يوسف بن إسماعيل النبهاني. تحقيق ومراجعة إبراهيم عطوة عوض. طبعة عام 1409ه – 1989م.

[35] – ن.م. 2/202.

[36] – ن.م. 2/203.

[37] – الطبقات الكبرى. 1/109. الشعراني. بدون تاريخ ولا رقم الطبعة.

[38] – ن.م. 1/109.

[39] – ن.م. 1/109.

[40] – الطرق الصوفية في مصر. نشأتها ونظمها وروادها. ص 117. د.عامر النجار. طبعة 1983م.

[41] – الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية. ص 4-5. جمع وترتيب الحاج إسماعيل ابن السيد محمد سعيد القادري. مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني. بدون تاريخ.

[42] – سورة الجن: 16.

[43] – إحياء علوم الدين. 1/303. أبو حامد الغزالي. دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت – لبنان. بدون تاريخ.

[44] – مساهمة في البحث عن زوايا بني يزناسن. ص 69-70.

[45] = ن.م. ص 68.

[46] – عمل اليوم والليلة. ص 131.

[47] – ن.م. ص332.

[48] – سورة الأحزاب: 55.

[49] – عمل اليوم والليلة. ص 333.

[50] – سورة النحل: 43.

[51] – الوصايا. ص 14. ابن عربي الحاتمي.

[52] – سورة مريم: 6.

[53] – مساهمة في البحث عن زوايا بني يزناسن. ص 70.

[54] – كتب ليست من الإسلام. ص 69-70.

[55] – الأسبوع الصحفي. ص 9. 21/4/2006. عدد 397/834.

[56] – سورة المائدة: 118-119.

[57] – الجامع الصغير 2/541. رقم الحديث 8993.

إرسال التعليق