
أصوات بلا صدى في واد الريع
رصد المغرب / مراد مجاهد
في مغرب ما بعد دستور 2011، وفي ظل الحديث المتكرر عن دولة الحق والقانون والدولة الاجتماعية، لا يزال قطاع سيارات الأجرة يعيش في وضع شاذ يبعث على الاستغراب، بل على القلق، حيث وضعٌ يُسيَّر بعقلية ما قبل الدستور، وتُدار علاقاته المهنية بنفس الأدوات الريعية التي أفرزت التهميش والاستغلال وانعدام الحماية.
الواقع المؤلم الذي يتخبط فيه السائق المهني اليوم هو نتيجة مباشرة لتغوّل فئة من ما يُعرف بـ”متعددي العقود”، الذين احتكروا رخص الاستغلال، وتحولوا إلى “لوبي” لا يكتفي بجني الأرباح، بل يعمل على تأسيس هياكل وتنظيمات تدّعي تمثيل المهنيين، وهي في حقيقتها مجرد دروع لحماية مصالحهم، وتكريس تبعية السائق، وضرب كل إمكانية للإصلاح.
والنموذج الأخير لما يسمى “عقد المناولة”، الذي تم تسريبه من إحدى الفيدراليات التي تمثل هذه الفئة، يكشف بوضوح خطورة ما يجري في الخفاء، حيث عقد يُفترض فيه أن يُنظم علاقة شغل بين مستغل وسائق، لكنه في حقيقته يُلغي الحد الأدنى من الحقوق، ويتنكر لمدونة الشغل، ويضرب عرض الحائط كل ما ينص عليه القانون من حماية اجتماعية وتأمين وتوازن تعاقدي، بل إنه عقد إذعان مقنّع، يعيد إنتاج العبودية المهنية، ويُحوّل السائق إلى رقم في منظومة إنتاج لا تعترف بكرامته.
والأخطر من مضمون العقد، هو السياق الذي يُفرض فيه: فراغ قانوني رهيب، وتراخٍ إداري، وصمت غريب من السلطات المختصة، بل وتواطؤ ضمني من بعض النقابات التي لم تحرّك ساكناً أمام هذه الإهانة الصريحة لمبادئ الكرامة الإنسانية.
وفي هذا السياق، نطرح سؤالاً مباشراً: أين الدولة من كل هذا؟ أين وزارة الداخلية من تفعيل المذكرة الوزارية رقم 444 التي تلزم متعددي العقود بتأسيس شركات تحت طائلة فسخ العقود؟ وأين هو عقد العمل النموذجي الذي وعدت به الجهات الوصية لحماية السائقين من الاستغلال؟ ثم، أين الحكومة التي يفترض أن تؤطر هذا القطاع الحساس الذي يشغّل عشرات الآلاف ويؤمّن خدمات يومية لملايين المواطنين؟
بل نتوجه بالسؤال الأكثر إحراجاً للنقابات، وخاصة تلك التي تُسمى بـ”الأكثر تمثيلية”: أين أنتم؟ هل فقدتم البوصلة؟ هل نسيتم أنكم تمثلون طبقة عاملة مهضومة الحقوق؟ أم أن حسابات التوازنات والمصالح قد أفقدتكم صوتكم؟
إن ما يجري اليوم لا يمكن السكوت عنه. فحين يُترك قطاع حيوي في يد فئة تحتكر وتُهيمن وتُقنّن الاستغلال عبر “مذكرات داخلية” وعقود مفصلة على مقاس مصالحها، فإننا لا نكون فقط أمام مشكل قطاعي، بل أمام أزمة حكم، وتحدٍّ مباشر لمبدأ دولة القانون. إن ربط المسؤولية بالمحاسبة، كما نص عليه الفصل الأول من الدستور، ليس شعارًا للتزيين، بل التزامٌ يجب أن يُترجم إلى إجراءات، تبدأ من هذا القطاع الذي يئن تحت وطأة الفوضى والريعية.
من هنا، وأمام هذا الصمت الرسمي، وانسداد الأفق، ومعاناة السائقين الذين لا صوت لهم، نتوجه بنداء مفتوح إلى جلالة الملك محمد السادس، ضامن الحقوق والحريات، وحامي الدستور. لقد سبق لجلالتكم في خطاب تاريخي أن قلتم إن “الشعب يلجأ إليكم حين تضيق به السبل، لأنكم لا تخيبونه”.
سيدي، لقد ضاقت السبل بالسائقين المهنيين، وأُغلقت في وجوههم أبواب الإدارة والنقابات، ولم يبقَ لهم إلا باب جلالتكم. نناشدكم، باسم العدالة والكرامة والحق في العيش الكريم، أن تتدخلوا لوضع حد لهذا العبث، وتوجيه الحكومة والجهات المختصة إلى تحمّل مسؤوليتها في إصلاح هذا القطاع، وإرساء نموذج تعاقدي عادل، وإنهاء منطق الريع والاستغلال.
إن المغرب الذي نريده جميعًا هو مغرب لا يُهان فيه الكادح، ولا يُستضعف فيه العامل، ولا يُختطف فيه قطاع بأكمله لصالح فئة ترى في القوانين مجرد تفاصيل مزعجة. فإما أن تكون لنا دولة تُطبّق القانون على الجميع، أو نكون أمام فوضى مقنّنة تفتك بأضعف أبنائنا.
فلنضع اليد على الجرح، ولنطالب، بصوت واحد، بإنقاذ هذا القطاع من بين أنياب الجشع والإهمال.
إرسال التعليق